د. سامح فوزى
فى العلوم الاجتماعية هناك فارق بين باحث مدرسى وباحث مثقف، وهى تفرقة أساسية فى إدراك مغزى هذه العلوم وأهميتها.
يقدم الباحث المدرسي-دون تقليل من شأنه- إجابة بسيطة لسؤال يتصور أنه بسيط، بينما الباحث المثقف يقدم إجابة متعددة الأبعاد لسؤال يعرف إنه معقد مهما بدا بسيطا فى شكله الأولي. خذ مثالا على ذلك تأثير السوشيال ميديا على الأطفال، أغلب الظن سوف يتجه فريق من الباحثين لبيان أضرارها، داعين إلى فرض ضوابط على استخدامها فى هذه المرحلة العمرية المبكرة. لا أحد يجادل أن هناك تأثيرات سلبية للسوشيال ميديا على الطفل والنشء، يتحدث عنها الباحثون شرقا وغربا، وتتبنى تقارير دولية وجهة نظرهم، ولكن هذه هى نصف الإجابة، التى حاول باحثون آخرون، أكثر ثقافة وإبداعا، طرح تصورات أخرى مكملة لها، وفى رأيهم أن تواصل الطفل مع الفضاء الإلكترونى يقلل الفجوات المعرفية والثقافية بين طفل غنى وآخر فقير، وذلك انطلاقا من تصور أشمل يقوم على أن التواصل الرقمى يحد من التهميش الاجتماعي، حيث يتيح للمهمشين القدرة على الاتصال والتواصل والحصول على خدمات.
مثال على ذلك المهاجر الفقير المهمش فى مجتمع غربي، يواجه تحديات الاندماج الاجتماعى والاقتصادي، لكنه يستطيع باستخدام تطبيقات الاتصال عبر الإنترنت أن يتواصل لحظيا مع ذويه فى بلده الأصلي، بل وفى أى مكان فى العالم دون تكلفة تذكر بعد أن كانت فى السابق الاتصالات الهاتفية العابرة لحدود الدول مكلفة، لا يقدر عليها سوى من يمتلك ثمنها.
قضية أخري، وهى وباء كورونا، يظن البعض أن تداعياته واضحة، لكنها ليست إجمالا على هذا النحو. هناك رأى يقوم على أن الوباء كشف عمق الأزمة بين دول فقيرة وأخرى غنية، وبين الطبقات الاجتماعية المتباينة داخل المجتمع الواحد، سواء من حيث القدرة على ممارسة ما عرف بالتباعد الاجتماعى أو التمتع بالرعاية الصحية فى حالة الإصابة بالفيروس، أو الحصول على التطعيمات اللازمة. بالتأكيد هذه الملاحظة صحيحة، ولها ما يدعمها من الواقع، لكن اكتمال النظرة إلى تأثيرات الوباء اجتماعيا تقتضى من الباحث تقصى دوره فى الدفع بالناس قسرا إلى الفضاء الرقمي، وهو ما أسهم فى التقليل من حدة التفاوتات الاجتماعية الصارخة بين الشعوب، وبين السكان فى نفس الدولة. مثال على ذلك، قد يستطيع الغنى أن يحضر عرضا موسيقيا مكلفا ماليا، يمكن أن يشاهده شخص آخر فقير على الانترنت بتكلفة محدودة للغاية، إن وجدت، وينسحب نفس الأمر على الجولات الافتراضية للمتاحف، والأفلام السينمائية، والدروس الخصوصية.
وقد لفت نظرى يوما وجود عدد من الشباب والأطفال يقفون بجوار أحد السنترالات، والسبب أنهم يحصلون بهذه الطريقة على خدمة انترنت مجانية. ونظرا لاتساع نطاق تغطية شبكة الانترنت، وتطورها بمرور الوقت، يستطيع الآن شخص يعيش خارج مجتمعه أن يتواصل مع أسرته وأصحابه صوتا وصورة دون أن يتكلف مليما واحدا، بل ويقوم بإنتاج مواد فيلمية عن طريق الانترنت المتاح بالمجان فى أماكن عديدة. وإذا كنا نرى أن الانتقال الكثيف إلى الفضاء الرقمى الذى رافق انتشار وباء كورونا قد حقق قدرا من المساواة بين الأغنياء والفقراء، فإنه استخدم، ولا يزال، فى تعويض الاتصال المباشر بين الناس، كما حدث ويحدث مع بعض الحالات الحرجة القريبة من الموت على أسرة المستشفيات من خلال التواصل مع أفراد أسرتها أو شخصيات دينية تتحدث معها، وتراها عبر الوسائط الالكترونية، قبل رحيلها. بالطبع هناك تفاوت فى البنية الأساسية الإلكترونية من مجتمع لآخر حسب مستوى تقدمه، إلا أنه ليس بالحدة التى يكون عليها التفاوت فى الثروة والجاه فى الواقع العملي، والذى يحتاج تحقيقه إلى تراكم طويل، بخلاف التواصل الإلكترونى الذى بات بالإمكان سرعة امتلاكه. يكشف الحديث السابق أن ظواهر الحياة لم تعد بسيطة، بل متشابكة، وهى حالة ليست جديدة، فنحن نسمع منذ زمن من أساتذة العلوم الاجتماعية عن تشابك الظواهر الاجتماعية، لكنها صارت الآن متشابكة إلى الحد الذى لم يعد ممكنا الفصل بينها، أو النظر إليها نظرة بسيطة مباشرة.
يعنى ذلك أن الباحث فى العلوم الاجتماعية ينبغى أن يكون مثقفا، وليس فقط متخصصا فى مجال معين، لأن المعرفة المتخصصة صارت قاصرة، تقدم فى أحسن الأحوال نصف إجابة، تحتاج أن تكتمل بالثقافة، والنظرة المتسعة المتشعبة. وربما يعد ذلك أحد أهم الإشكاليات التى تواجه البحث الاجتماعى فى مجتمعنا، بالإضافة بالطبع إلى القدرات المالية والحريات الأكاديمية وإتاحة المصادر العلمية، حيث نجد قطاعا عريضا من الباحثين المدرسيين إن صح التعبير، يتسم إنتاجهم العلمى بالنمطية، والتكرار، وغياب الإبداع، وهو ما يجعله حبيس رفوف المكتبات لا ينقل إلى الواقع فكرة جديدة تسهم فى تطوره، أو نظرة مختلفة تدعو إلى التأمل فى الحياة المتغيرة.
نقلا عن الاهرام