القمص منقريوس المحرقي
مع بداية شهر مسرى المبارك، يتهيأ ملايين الأقباط الأرثوذكس للدخول في أحد أهم الأصوام المحبوبة إلى قلوبهم، ألا وهو صوم السيدة العذراء مريم، الذي يبدأ في 1 مسرى (7 أغسطس) وينتهي بعيد إصعاد جسدها الطاهر في 16 مسرى (22 أغسطس). يمتاز هذا الصوم بجانبه الروحي العميق، وشعبيته الواسعة، وتقليده الكنسي الراسخ، إذ يُعد تعبيرًا عن محبة الكنيسة الأم للقديسة مريم، والدة الإله.
أولًا: الخلفية التاريخية لصوم العذراء
رغم أن صوم السيدة العذراء لم يُفرض كنسًا في القرون الأولى من المسيحية، إلا أن الكنيسة القبطية توارثته عبر الأجيال حتى أصبح ثابتًا في طقسها، مدعومًا بتقليد آبائي شفوي، وأدلة تاريخية من كتابات بعض الآباء في الشرق.
يُذكر أن البابا غبريال الأول بن تريك (البطريرك الـ 57، القرن 12) قد أشار إلى صوم السيدة العذراء ضمن الأصوام المحبوبة والمعتبرة، مؤكدًا أن كثيرًا من المؤمنين يطلبون بركتها بالصوم والصلاة خلال هذه الفترة.
ثانيًا: البُعد الروحي لصوم العذراء
صوم العذراء لا يُعد فرضًا، بل نذرًا ومحبةً شخصية من الشعب القبطي تجاه أم النور. وهو صوم تقوي، يختبر فيه المؤمن حياة التوبة، والنقاء، والاتضاع على مثال القديسة مريم.
تقول العذراء في تسبحتها الخالدة:“تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي… لأنه نظر إلى اتضاع أمته” (لوقا 1: 46-48).هذه الكلمات تلخص حياة مريم: اتضاعٌ، طهارةٌ، طاعةٌ كاملة لإرادة الله. وهكذا يدعو هذا الصوم المؤمنين للاقتداء بفضائلها.يقول القديس كيرلس الإسكندري:“العذراء هي مثالنا في الإيمان، ملجأنا في الضيق، وشفيعتنا أمام ابنها”.
ثالثًا: الطقس الكنسي في صوم العذراء
يُعامل صوم السيدة العذراء في الكنيسة القبطية كصوم من الدرجة الثانية، لكن يُمارسه كثير من أبناء الكنيسة بكامل الانقطاع النباتي، وقد يختار البعض أن يزيدوا من نسكهم خلاله، نظرًا لقدسيته.
الصلوات الطقسية في هذا الصوم تتسم بروح مريمية عميقة:
• تُتلى تسبحة العذراء يوميًا في الإبصلمودية.
• تُقرأ سيرة والدة الإله في الكنائس، وتُرفع المدائح المريمية مساءً.
• تقام نهضات روحية في معظم الكنائس، حيث تُقدَّم عظات عن سيرة العذراء، وتُعزف الترانيم التي تمجدها.
يقول القديس غريغوريوس النازيانزي:“إن كانت العذراء قد حملت في أحشائها كلمة الله، فليكن قلبك أنت أيضًا هيكلاً له”.
رابعًا: إصعاد جسد العذراء ونهاية الصوم
ينتهي الصوم بعيد إصعاد جسد العذراء إلى السماء، وهو عيد لا يُذكر في الكتاب المقدس لكنه رُوي عبر التقليد الكنسي، الذي احتفظ به الآباء الرسل، ودوّنه لاحقًا آباء الكنيسة.
تُظهر الكنيسة إكرامها لهذا الحدث من خلال الاحتفالات الشعبية والقداسات التي تقام في هذا اليوم، وقد تُقام زيارات إلى الكنائس التي تحمل اسمها، وخاصة كنيسة السيدة العذراء بالزيتون والعذراء بمسطرد وكنيسة العذراء جبل الطير وديرالعذراء المحرق ودير درنكة، حيث يتجمع الآلاف للتبرك والاحتفال.
صوم المحبة والشكر
يُعبّر صوم السيدة العذراء عن حب الشعب القبطي لأم الله، لا من باب العبادة، بل من باب الإكرام والتقدير لمن قالت “هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك” (لوقا 1: 38)، وسارت طريق الإيمان الكامل حتى الصليب والقيامة.وفي زمن فقد فيه العالم الكثير من الهدوء والنقاء، يعود صوم العذراء ليذكرنا بالنقاء، بالصمت الداخلي، وبالنعمة التي تفيض من قلب متضع ممتلئ نعمة، مثلما قيل عنها:“السلام لك أيتها الممتلئة نعمة، الرب معك” (لوقا 1: 28)
شفاعة العذراء ام النور عن العالم وعن الكنيسة وعننا جميعا