د.محمد فايز فرحات

ليس من المستغرب أبدا أن يسعى تنظيم الإخوان الإرهابى إلى توظيف واستغلال أية أزمات إقليمية أو دولية، على أمل تأليب الرأى العام الداخلى ضد الدولة المصرية ومؤسساتها الوطنية. لكنهم لم ــ ولن ــ يفهموا أيضا أن المجتمع المصرى قد وعى الدرس جيدا، وقد نجح فى فهم وتفكيك وتعرية الأبنية التنظيمية والفكرية للتنظيم، على نحو لن يكون بإمكانه خداع الشعب المصرى مرة أخرى، مهما تعددت وتنوعت أدواته الخبيثة.

 

فى هذا السياق، لم يكن هناك أى تأثير لتصريحات رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، خليل الحية، ولا للتظاهرة التى نظمتها ما تعرف بـ«الحركة الإسلامية» داخل دولة الاحتلال الإسرائيلى أمام السفارة المصرية فى تل أبيب، سوى تكريس وتعميق عدد من قناعات الشعب المصرى حول تنظيم الإخوان الإرهابى.

 

أولى تلك القناعات تتعلق بوجود خلل فكرى وأيديولوجى خطير لدى التنظيم حول مفهوم الوطن، فقد ارتكز التنظيم على مفاهيم شكلت بطبيعتها خطوطا لتقسيم المجتمع ليس فقط على أسس دينية، ولكن أيضا على أساس درجة الإيمان ــ حسب تقدير وحسابات التنظيم ــ ومن ثم العمل على خلق جماعة «المسلمين»، أو «المؤمنين»، فى مواجهة «الكفار»، أو «ذوى العقيدة الفاسدة»، أو حالة «الجاهلية الأولى». استوى فى ذلك تنظيم الإخوان مع غيره من الجماعات التكفيرية أو جماعات السلفية الجهادية، بدرجات مختلفة قربا أو بعدا من درجة تكفيرهم الضمنى أو الصريح للفرد والمجتمع والدولة. على سبيل المثال، استندت جماعات التكفير والهجرة والحركات الجهادية العنيفة إلى مفهوم «الجماعة المسلمة» أو «العصبة المؤمنة» فى مواجهة الدولة الكافرة والمجتمع المرتد عن الإسلام إلى حالة الكفر والجاهلية الأولى، حتى وإن كانت الأولى (التكفير والهجرة) قد رأت الحل فى هجرة هذا المجتمع واعتزاله، بينما رأت الثانية (السلفية الجهادية العنيفة) ممارسة الجهاد ضد الدولة أو المجتمع أو كليهما. وطور تنظيم الإخوان مفهوم «جماعة الإخوان المسلمين» فى مواجهة غيرهم من «غير الإخوان المسلمين»، فى إشارة ضمنية، تحولت إلى صريحة بعد ذلك، بتكفير المجتمع.

 

وقد أثبتت خبرة التنظيم فى حكم مصر خلال الفترة (يونيو 2012 يونيو 2013) مركزية مفهوم «الجماعة» فى مواجهة الدولة والمجتمع. ولم يستطع التنظيم التنازل عن فكرة «الجماعة» تلك لصالح «الحزب السياسى»، باعتبار الأخير هو الآلية الرئيسية لإدارة التنافس بين الرؤى والتيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمع ومن داخل النظام السياسى، استنادا إلى قواعد محددة للعبة السياسية كما أقرها القانون والدستور، أو من داخل «الدولة» باعتبارها الإطار الذى تنتظم عبره الجماعات البشرية، وذلك رغم امتلاك الجماعة حزبا سياسيا بعد أحداث يناير 2011، ورغم انتقالها من المعارضة إلى الحكم، وهو ما كان يعنى انتفاء مبررات تمسكها بفكرة تقسيم المجتمع على أساس «الجماعة» فى مواجهة المجتمع والدولة. وتحول «التنظيم» من وسيلة دفاعية لحفظ الذات من الذوبان داخل المجتمع إلى كيان يحاول جاهدا «ابتلاع» المجتمع والدولة. وتبع ذلك عدم قدرة التنظيم على فهم واستيعاب معنى الوطن والدولة الوطنية، إذ رأى فى نفسه كيانا أعلى من الدولة الوطنية.

 

الحقيقة الثانية هى الطابع الذرائعى المكيافيللى للتنظيم، الأمر الذى يفسر استعداده للتعاون مع أى قوة خارجية؛ دولية أو إقليمية، بصرف النظر عن حجم التوافق السياسى أو الدينى أو الأيديولوجى معها، طالما أن ذلك يحقق أهدافه المرحلية أو بعيدة المدى. وقد زخر تاريخ التنظيم منذ نشأته فى 1928 بالعديد من خبرات التعاون مع قوى دولية وإقليمية لتحقيق أهدافه، كما وقفت مرحلة أحداث يناير 2011، وما تبعها، شاهدة على هذا الاستعداد الغريزي. وقد تعمق هذا الاستعداد لدى التنظيم بسبب نجاح الدولة والشعب المصرى فى تعريته تنظيميا وأيديولوجيا أمام العالم من خلال ثورة يونيو 2013، الأمر الذى خلق لدى التنظيم رغبة شديدة فى الثأر والانتقام حتى وإن كان الثمن هو التضحية بأمن الوطن. وربما جاء لجوء التنظيم ــ فى مفارقة تاريخية- إلى التظاهر أمام السفارة المصرية فى تل أبيب تحت دعم حكومة الاحتلال الإسرائيلية، ليعبر عن حالة من اليأس، لكنها كانت مناسبة إضافية مهمة وتاريخية للتعبير عن مدى استعداد التنظيم للذهاب إلى مدى غير مسبوق للتعاون مع أى قوة خارجية حتى وإن كانت المحتل نفسه للأراضى الفلسطينية! ما يؤكد أن الهدف لم يكن يتعلق بالعمل على إنهاء الاحتلال أو العدوان الإسرائيلى على غزة بقدر ما ينصرف إلى محاولة خلق حالة من الفوضى داخل مصر.

 

الحقيقة الثالثة، هى تصور التنظيم أنه يمكن إعادة إنتاج سيناريو أحداث يناير 2011 مرة أخرى، أو خلق حالة من الفوضى والاضطراب تمكن التنظيم من العودة مرة أخرى للحياة السياسية أو الحكم. لكن التنظيم لا يفهم للأسف أن الشعب المصرى قد وعى هذا الدرس جيدا، وأصبح لديه ترتيب واضح للأولويات الوطنية، حيث تأتى قيمتا الأمن والتنمية فى الترتيب الأول، باعتبارهما مكونين رئيسيين فى متلازمة واحدة. كما أصبح الشعب المصرى أكثر إيمانا، من أى وقت مضى، بأن السبيل الوحيد والعملى للتحديث هو «الإصلاح»، بما يعنيه من مضامين وأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، خاصة فى ظل وجود قيادة سياسية وطنية تؤمن بحق الشعب المصرى فى الأمن والتنمية وبناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة، وهو ما لن يتحقق إلا عبر مسار إصلاحى آمن ومستدام. ومن ثم، لم يعد هناك مجال للتأليب بين النظام والمجتمع، حتى لو لجأ التنظيم إلى توظيف الأزمة الإنسانية داخل قطاع غزة.

 

 

إن قراءة دقيقة لتصريحات الحية وسلوك «الحركة الإسلامية» داخل إسرائيل لا تأثير لها سوى إعادة التأكيد على هذه الحقائق والدروس التى باتت راسخة لدى الشعب المصري، ومن خلفه مؤسساته الوطنية. كما أنها تعيد التأكيد من جديد على أنه لا أمل فى المراهنة على هذا النوع من التنظيمات فى تحقيق آمال الشعوب فى التنمية أو بناء الدول الوطنية، وربما حتى تحقيق التحرر الوطني. إن تقييما تاريخيا عادلا وحقيقيا لدور هذه التنظيمات فى خدمة المصالح الوطنية العليا وخدمة القضية الفلسطينية العادلة لن يكون بالتأكيد فى مصلحة هذه التنظيمات، لكن تلك مسألة أخرى، وهو ما يفسر حرص الدولة المصرية على التمييز الواضح بين موقفها من هذه التنظيمات وموقفها من القضية الفلسطينية.

نقلا عن الاهرام