نيفين سوريال
يفتتح مزمور 15 بسؤال يهزّ أعماق النفس: “يا رب، من ينزل في مسكنك؟ من يسكن في جبل قدسك؟”
إنه سؤال لا يبحث عن معرفة نظرية، بل عن مسيرة قلب. من هو الإنسان الذي يليق به السكنى في محضر الله؟ من هو الذي يحيا قرب وجهه، ليس فقط في الهيكل الأرضي، بل في حضرته الأبدية؟
الجواب يأتي في كلمات داود النبوية: “السالك بالكمال والعامل الحق والمتكلم بالصدق في قلبه”. هذه ليست صفات شكلية، بل وصف لنمط حياة يعيش الحق في الداخل كما في الخارج. وهنا نتذكر كلمات النبي ميخا حين قال: “قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعًا مع إلهك”. هي نفس الروح التي تحدّث بها يعقوب الرسول حين قال: “كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم”. فحياة الساكن في قدس الله ليست حياة أقوال، بل أفعال متجذرة في صدق داخلي.
ثم يصف داود من لا يسمح للشر أن يخرج من فمه ولا يستخدم لسانه أداة للإدانة أو التحقير، فيقول: “الذي لا يشي بلسانه ولا يصنع شرًا بصاحبه ولا يحمل تعييرًا على قريبه”. هذا القلب الذي رفض أن يُنجّس نفسه بالكلام الفاسد أو النميمة، هو ما تحدث عنه يعقوب حين أشار إلى التناقض المؤلم في لسان الإنسان الذي به نبارك الله وبه نلعن الناس، قائلاً: “لا ينبغي يا إخوتي أن تكون هذه الأمور هكذا”. في ذات السياق يؤكد سفر الأمثال: “كثرة الكلام لا تخلو من معصية، أما الضابط شفتيه فعاقل”.
يتابع المزمور بوصف شخص نقي في تمييزه، يقول: “في عينيه محتقر الرذيل ويكرم خائفي الرب”. هذا هو الإنسان الذي لا يُبهره المظهر، بل يقدّر من يعيش في مخافة الله، كما كتب بولس في رسالته إلى رومية قائلاً: “المحبة فلتكن بلا رياء كونوا كارهين الشر ملتصقين بالخير”. وقد أكد سفر الأمثال أن “الماشي مع الحكماء يصير حكيمًا، ورفيق الجهال يُضر”، فالإنسان التقي لا يُصادق أهل الباطل ولا يصفق لهم بل يكرم من يسلك بالحق.
ويستمر المزمور في كشف جوهر الأمانة، فيقول: “يحلف للضرر ولا يغير”. أي أن كلمته صادقة، وعهوده ثابتة حتى لو كلّفته ألمًا أو خسارة. هذا ما أشار إليه الرب يسوع حين قال: “ليكن كلامكم نعم نعم لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير”. فالمقياس عند الله ليس الكلمات البراقة، بل الأمانة والصدق حتى في التفاصيل الصغيرة.
ثم ينتقل داود إلى جانب خطير جدًا في الحياة الروحية، وهو المال والعدالة، فيقول: “لا يعطي فضته بالربا ولا يأخذ الرشوة على البريء”. هذا السلوك يكشف قلبًا غير متعلق بالماديات، قلبًا لا يساوم على الحق من أجل مكسب، تمامًا كما ورد في سفر الخروج: “لا تأخذ رشوة لأن الرشوة تعمي المبصرين وتعوّج كلام الأبرار”. (خر 23: 8) وعندما جاء الشعب ليسأل يوحنا المعمدان ماذا يفعلون، قال للجباة: “لا تأخذوا أكثر مما فُرض لكم”، وللعسكر: “لا تشوا بأحد واقنعوا بعلائفكم”. هي نفس الروح التي يدعو إليها المزمور، روح الطهارة من محبة المال والظلم والتمييز الظالم.
وفي الختام يعطي الروح القدس الساكن في داود وعدًا عظيمًا: “الذي يصنع هذا لا يتزعزع إلى الأبد”. وهذا ليس وعدًا عاطفيًا بل تأكيد إلهي بأن من يسلك بهذه الصفات، يثبت في محضر الله، لأن أساس حياته مبني على الصخر، كما قال الرب يسوع: “كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر، فنزل المطر وجاءت الأنهار وهبت الرياح ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط لأنه كان مؤسسًا على الصخر”.
ختامًا
مزمور 15 ليس مجرد نص شعري، بل هو مرآة لحياة من يريدون أن يقتربوا من الله بصدق. إن الدعوة فيه ليست إلى طقوس ولا كلمات محفوظة، بل إلى قلب مستقيم، ولسان صادق، وسلوك طاهر. هو دعوة لنحيا الإنجيل في كل خطوة، دعوة إلى حياة لا تُزعزعها الرياح، بل تثبت لأن جذورها في الله.
فهل أنت من الذين يسكنون في جبل الرب؟ وهل قلبك مستعد أن يحيا هذه الحياة؟
الرب لا يبحث عن النظاميين ولا الذين يعيشون في العالم بصورة التقوى ولكن منكرون قوتها، بل عن الأمينين الذين يطلبونه من القلب ويسلكون في النور السالكين بالروح والحق.