بقلم: بروفيسور د. طلعت مليك
بينما تنشغل وسائل الإعلام العالمية بالصراعات في الشرق الأوسط وأزمات أوروبا وأمريكا اللاتينية، تمر أمام أعيننا ـ بلا اهتمام أو تغطية ـ واحدة من أشرس الحروب الإنسانية في عصرنا الحالي: الحرب في السودان. حرب الفقراء، حيث يموت الناس يوميًا بصمت، بلا صراخ ولا حتى عويل، لأنهم ببساطة فقراء لا يجدون من يدافع عنهم أو يرفع صوتهم.
الأرقام الأممية صادمة: عدد القتلى في السودان يتجاوز بأكثر من ثلاثة أضعاف عدد القتلى في كل أنحاء الشرق الأوسط مجتمعًا، ومع ذلك، الإعلام والميديا يتجاهلونهم تمامًا. منذ اندلاع الحرب الأهلية في 15 أبريل 2023، نزح أكثر من 13 مليون شخص، منهم 8.6 مليون داخل السودان، وأكثر من 4 ملايين عبروا إلى الدول المجاورة.
هؤلاء النازحون يعيشون في ظروف مأساوية. في تشاد وحدها، وتحديدًا في منطقة حدودية مفتوحة، وثقت الأمم المتحدة أكثر من 40 ألف لاجئ سوداني في العراء، نساء وأطفال وكبار سن، تحت أمطار غزيرة متواصلة بلا أغطية أو مأوى. الصورة قاتمة: جوع، مرض، تفشي الكوليرا، وغياب تام للغذاء والمياه والخدمات الطبية.
ومع اقتراب موسم "الهبوب" في سبتمبر، وهو الموسم السوداني للرياح الموسمية، تزداد المخاطر. الأمطار الغزيرة قد تدمر ما تبقى من الملاجئ المؤقتة وتزيد من تفشي الأمراض المعدية، في وقت يحتاج فيه السكان بشدة للبذور للزراعة، والغذاء، والمياه النظيفة، والمأوى.
الوضع الصحي ينهار بالكامل، إذ تستهدف الأطراف المتحاربة المنشآت الطبية عمدًا، في انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي، بحسب الأمم المتحدة. ومع ذلك، لا استجابة دولية كافية. برنامج الأغذية العالمي حذر مؤخرًا من أن عدة مناطق جنوب الخرطوم على شفا المجاعة، في ظل نقص حاد بالتمويل واحتياجات تفوق الموارد.
أما على الصعيد السياسي والعسكري، فالمشهد معقد ومشحون بالمصالح الخارجية. القوات المسلحة بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان مدعومة من مصر، تركيا، إيران، قطر، وإريتريا. في المقابل، قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) تتلقى الدعم من الإمارات والسعودية، إلى جانب شركات أمنية أجنبية. هذه التدخلات ليست لوجه الله، بل من أجل السيطرة على مناجم الذهب، الماس، اليورانيوم، والبترول، وغيرها من الثروات السودانية.
الصراع السوداني ليس فقط حربًا على الأرض، بل هو أيضًا حرب هوية. شمال السودان يهيمن عليه الإسلاميون والعربان، الذين يتصارعون فيما بينهم أو ضد السودانيين الأفارقة، في صراع يمتزج فيه البعد العرقي والديني مع الجشع على الموارد الطبيعية. أما جنوب السودان، الذي يقطنه أغلبية من السود والمسيحيين، فقد انفصل رسميًا عام 2011، لكنه ما زال متأثرًا بالتوترات المستمرة في الشمال.
إن ما يحدث في السودان ليس مجرد أزمة إنسانية، بل مأساة تُدار على أيدي قوى خارجية تتكالب على موارده، بينما يبقى الشعب السوداني الضحية الكبرى. لذلك، لا بد أن يرتفع صوتنا جميعًا ضد هذه الحرب المنسية، وأن نطالب بوقف الدعم الخارجي للأطراف المتحاربة، وبإغاثة عاجلة لهؤلاء الذين يعيشون اليوم بلا مأوى، بلا طعام، وبلا دواء، قبل أن يتحول النزاع إلى إبادة بطيئة لشعب بأكمله.