كمال زاخر
يبدو أننا أمام نوبة صحيان تعمل على رد الإعتبار لمثقف مصرى من القرن الثالث الميلادي، بعد قرون هذا عددها.
انه اوريجانوس الذي سجنوه في توصيف "العلَّامة" وحجبوا عنه وصف قديس!!!.
وقيل في تسويغ هذا انه يؤمن بخلاص الشيطان وغير المؤمنين، وهي قضايا فكرية لا تمس جوهر الإيمان المسيحي، بل تمد مظلته خارج الأطر المتعارف عليها، برؤية اصحابها، وتظل محل جدل، بقواعد فلسفية، ولا تتجاوز أفق اختلاف الرؤى والتأويلات، ولا ترقي لمصاف العقيدة.
وكان الآباء الثقاة، يختلفون فى الرأى ولم يذهب أحد إلى عدم اعتبارهم قديسين، ويحتفظ لنا التاريخ بنماذج عديدة لمعلمين كنسيين ثقاة اختلفوا فى قضايا كنسية وكتابية مهمة، الى درجة التضاد، ولم يقل احدهم بأن الأخر "هرطوقى"، لا فى عصره ولا فى العصور اللاحقة، لسلامة الأرضية الإيمانية التى يقفون عليها وينطلقون منها.
تطبيق :
نقف أمام ثلاث وقائع خلافية فى دائرة الرأى، لم تنتهي باتهامات الهرطقة.
1 ـ شاول الملك وتحضير روح صموئيل (عرافة عين دور)
ـ هل كانت روح صموئيل ؟
كثير من الاباء رفضوا فكرة روح صموئيل ؛ منهم هيبوليتس وترتليانوس وباسيليوس الكبير، بينما يؤكد يشوع بن سيراخ فى سفره أنها روح صموئيل، وقد رفع من الارض صوته : "صموئيل المحبوب عند الرب نبي الرب سن الملك ومسح رؤساء شعبه ... ومن بعد رقاده تنبأ واخبر الملك بوفاته ورفع من الأرض صوته بالنبوءة لمحو إثم الشعب"(يشوع بن سيراخ46 : 16و 23).
ولم يقل أحد بهرطقة هؤلاء، ولم يشكك أحد فى صحة ما قاله كاتب السفر، بل قُرأ الأمر على أنه رأى لأصحابه.
2 ـ النجم الذى ظهر للمجوس : نجم حقيقى أم ملاك؟
ـ يوحنا ذهبى الفم يقول بأنه ملاك، وكذلك الأب بولس البوشى الأسقف، وهو عالم مصرى من القرن الثالث عشر.
ـ بينما العلامة اوريجانوس أبو التفسير الرمزى يرى أنه نجم حقيقى!!.
ـ ولم يهرطق أى منهما لا فى عصره ولا فى العصور اللاحقة.
3 ـ هل تناول يهوذا؟
- ذهبى الفم واغسطينوس قالا بأنه تناول
- قداس القديس باسيليوس عند البيزنطيين يقول بأن يهوذا قد تناول:
(ان يهوذا هو ابن الافاعى الذين اكلوا المن فى القفر وتذمروا على المُغَذي .. إذ كان الطعام بعد فى افواههم كانوا يتذمرون على الله فى قلوبهم، وكذلك هذا الردئ العبادة المتسلسل منهم إذ كان الخبز السماوى بعد فى فمه سلم المخلص).
ولم يُكِل أحد تهمة الهرطقة لأي منهم ولم يعتبروا خارجين عن الإيمان آباء قالوا رأياً وآباء قالوا عكسهم، وكلهم محسوبين من معلمى الكنيسة الجامعة.
ننتهى من هذا إلى أن الرأى يقبل الإختلاف ولا ينتهى بهرطقة قائله، طالما هو يؤمن بإيمان الكنيسة الذى قال به قانون الإيمان.
الإختلاف فى الرأى محكوم بعدم خروجه عن العقيدة العامة للكنيسة.
حول تناول يهوذا، وطبيعة حضور أو استحضار روح صموئيل في القديم، والقراءات المتعددة لسفر الرؤيا، اختلفوا ولم يتبادلوا الحرومات او القطيعة.
نعود لاوريجانوس والموقف منه، والذي يترجم علاقة السلطة بالمثقف، وقد تكرر من بعده، مع يوحنا ذهبي الفم، وهو من هو، في لدد خصومة وصلت إلى حرمه من الشركة (هكذا).
وفي ايامنا يتكرر الموقف مع الدكتور جورج حبيب بباوي، الذي صدر ضده قرار الحرم والقطع (بالتمرير) كدأب قيادة تلك الأيام، وبغير ان يتاح له حق الدفاع بحسب القوانين الكنسية.
اللافت ان ما ادين بسببه، برؤية السلطة، هو ما يعلم به الأب متي المسكين، لكن احداً لم يجرؤ علي اتخاذ نفس الإجراء معه، ممن كانوا يملكون سلطة القرار.
* ربما لمنهجه الهادئ المثابر، وقدرته على ان يصل إلى قاعدة عريضة من المتلقين،
* ربما لدعم رؤيته وتأويلاته بحشد من الأسانيد الكتابية والآبائية.
* ربما لخروج صوته إلى المحافل الاكاديمية اللاهوتية والكنسية في ارجاء العالم،
* ربما لقدرته على تجنب المشاحنات والملاسنات، وغزارة انتاجه التوعوي،
* ربما لاحتمائه بنسق النسك والتزامه الصارم بنذوره الرهبانية.
فلم يقدر مخالفوه على الاقتراب منه بشكل مباشر، وكانت "التقية" تحكم لقاءاتهم به، وفيها يتبادلون حلو الكلام وأعذبه، فلجأوا إلي اطلاق لجانهم الالكترونية، ومنابرهم، لتشويهه، ولم يفلحوا.
كلها تنويعات على ازمة العلاقة بين المثقف والسلطة، في مجتمع فقد كل حواسه إلا أذنيه، فاختُطف إلى قاع الثقافة السمعية، وحوصر بتقنيات صناعة النجم وتشكيل العقل الجمعي ليتحول إلى قطيع.