د. ماجد عزت إسرائيل
في واحدة من أهم الاكتشافات الأثرية المرتبطة بالتاريخ المسيحي المبكر في مصر، شهدت منطقة عين الخراب شمال واحة الخارجة – بوادي الجديد – كشفًا أثريًا فريدًا يُسلّط الضوء على الوجود القبطي العريق في عمق الصحراء المصرية، وعلى مساهمة الأقباط في تشكيل النسيج الحضاري لواحات مصر القديمة.
لقد كشفت أعمال التنقيب المستمرة عن مدينة سكنية متكاملة تعود إلى القرنين الرابع والسادس الميلاديين، تمثل مرحلة التحوّل من الوثنية إلى المسيحية. وتضم المدينة بقايا مبانٍ سكنية من الطوب اللبن، وكنيستين إحداهما مبنية على الطراز البازيليكي المعروف في العمارة القبطية، إلى جانب منشآت خدمية وأفران ومخازن غلال، ما يعكس نمط حياة جماعة مسيحية مستقرة في قلب الواحة.ويحمل الكشف بعدًا لاهوتيًا وفنيًا مهمًا، خاصة مع العثور على جدارية تمثل المسيح وهو يشفي المرضى، وكتابات قبطية على جدران الكنائس، وبعض الأيقونات التي ما زالت تحتفظ برونقها، إلى جانب مجموعة غنية من الأواني الفخارية والزجاجية وقطع الأوستراكا. هذا التنوع يُبرز مدى الحيوية الدينية والاجتماعية التي عاشها الأقباط في تلك المنطقة، وعمق حضورهم في التاريخ المصري خارج المراكز الحضرية الكبرى.
وهذا ما دفع الكاتب الألماني Ulf von Rauchhaupt إلى تسليط الضوء على هذا الحدث الأثري اللافت من خلال مقال بعنوان "Die ersten Kopten in der Oase – الأقباط الأوائل في الواحة"، نُشر في عدد 31 يوليو 2025 من إحدى الصحف الألمانية البارزة. وقد أشار فيه إلى أن الآثار القبطية في واحات مصر تكشف عن فصل بالغ الأهمية من التاريخ الروحي والمعماري المصري، وأن ما اكتُشف حتى الآن لا يمثل إلا مقدمة لما قد تحمله باطن الأرض من شواهد على التحول الديني العميق الذي شهده المجتمع المحلي في القرون الأولى للمسيحية.
كما أن المدينة المكتشفة تقودنا إلى منطقة البجوات، وهي المدينة الجنائزية الفريدة التي احتضنت رفات مئات الرهبان الأقباط الفارين من الاضطهاد الروماني في فترات مبكرة، وشيدوا مقابر متميزة مغطاة بقباب من الطوب اللبن، مزينة بأيقونات توراتية وقبطية تُعد من أقدم ما وصل إلينا من فنون التصوير المسيحي في مصر. فإن أهمية هذا الكشف لا تقتصر على بعده الأثري، بل تتعداه لتفتح آفاقًا جديدة في فهم الجغرافيا الروحية للكنيسة القبطية، ومسارات انتشار المسيحية المبكرة في الصحراء الغربية. ويُحتمل أن كثيرًا من الكنوز الفنية واللاهوتية ما زالت مدفونة في هذه الأرض التي حفظت تاريخًا روحيًا عميقًا لأقباط مصر في مراحل التأسيس.
ومن هنا، فإن الكنيسة القبطية مدعوة لإعادة تسليط الضوء على هذا التراث المهمل، ودعم البعثات البحثية، وتشجيع الدراسات اللاهوتية والفنية المتخصصة في هذه المواقع، فربما لا تزال هناك أيقونات لم تُكتشف بعد، وأصوات لآباء رهبان لم تُستعد سيرهم بعد.إن ما كشفته الرمال في عين الخراب والبجوات ليس مجرد أطلال، بل شهادة حية على عمق الإيمان والبذور الأولى لحياة مسيحية رهبانية وكنسية نمت في قلب الصحراء، وتستحق أن تكون جزءًا فاعلًا من الذاكرة القبطية والهوية المصرية المسيحية.
وأخيرًا، فإن الكشف الأثري الأخير في عين الخراب والبجوات لا يُعد مجرد إضافة إلى سجل الاكتشافات الأثرية، بل هو نداءٌ حيّ للوعي الكنسي والثقافي يعيد التذكير بجذور الأقباط العميقة في أرض مصر، وبدورهم الحضاري والروحي في تشكيل هوية الواحات. إنها ليست أطلالًا صامتة، بل رسائل من رهبان ومؤمنين عاشوا الإيمان في صمت الصحراء وبساطة اللبن والقباب، وتركوا لنا تراثًا لا يزال ينتظر أن يُكتشف ويُقرأ ويُقدَّر.ومن هنا، فإننا نأمل أن تُعيد الكنيسة القبطية، ومراكز البحث المختصة، توجيه الاهتمام نحو هذه المواقع المباركة، باعتبارها جزءًا حيًا من تاريخها الرسولي، وإرثًا روحيًا يستحق الرعاية والاحتضان.