فيولا فهمى

في أقصى شمال مملكة "قلمستان"، حيث يتلاقى الحبر بالنور، كانت تعيش جماعة مستنيرة تُدعى "الكلمة" لم يكن سكانها مزارعين أو مقاتلين، بل كانوا يملكون عيونًا تفرز الحقيقة، وبصيرة صائبة، وأقلامًا تسيل منها أحبار مضيئة تنير العتمة وتكشف المستور.

كانوا يُعرفون بين الممالك بأنهم "حراس النور"، فسلاحهم الصدق، ودروعهم الكلمة، ومعاركهم تخاض على السطور لا في ساحات القتال، وكلما كتبوا سطرًا صادقًا أضاءت نافذة من نوافذ المملكة، حتى أصبحت كالمنارة العالية التي تهتدي بها باقي الممالك.

لم يكن هذا الضوء يُرضي سلاطين الممالك الأخرى، ففرضوا قيودا على الكلام، وأشاعوا الخوف بين "حراس النور"، وأجبروهم على بناء جدران من الصمت بدلا من إضاءة نوافذ المملكة، وإمعانا في الإذلال والإلهاء جعلوا الخبز شحيحًا في الأسواق، فخرجت جماعة "الكلمة" من مملكتهم مطالبين بزيادة حصتهم من الخبز.

صرخوا بأعلى أصواتهم "نريد زيادة حصتنا في الخبز"، "نحن نضيء نوافذ المملكة، ألا نستحق لقمة عيش تحفظ كرامتنا؟!".. كانت مطالبهم منطقية وعادلة، لكن الغريب أن الضوء في المملكة بدأ ينطفيء، ليس بسبب مطالبهم المشروعة بل لأنهم لم يعودوا للكتابة التي كانت في السابق مصدر قوتهم وعزهم...

انشغلت هذه الجماعة المستنيرة بمعارك جانبية، وتركوا الحبر يجف داخل المحابر، والورق يتراكم كالأكفان، لم يعد أحد يسأل الحاكم، أو يكشف الفساد، أو يروي قصة معاناة مظلوم، ومع مرور الوقت، باتت النوافذ معتمة، وصارت جماعة الكلمة تتخبط في الظلام، بعد أن طغت حسابات الخبز على قوة ونفوذ الكلمة.

لم تمر شهور طويلة، حتى تحولت "قلمستان" إلى مملكة مهجورة فلا جدران ولا نوافذ ولا منازل، فقط أنقاض شاهدة على أزمنة النور، حينها اطمأن قلب سلاطين الممالك الأخرى وأعلنوا زيادة في الخبز، فابتهجت أسارير جماعة "الكلمة"، وتنفسوا الصعداء: "أخيرا استجابوا لمطالبنا"...

لكنهم عندما عادوا مجددا إلى عملهم، وجدوا الناس لم تعد تنظر إليهم بعين الاعتبار، فقد اعتادوا الظلام، ولم تعد أنظارهم تتعلق بالنوافذ المضيئة كما كانت من قبل، فادركوا أنهم وقعوا في فخ استبدال النور بالخبز، ونسوا أن النور كان دوما مصدر خبزهم.