الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
خرج ابن آدم من العدم قلت: ياه
رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه
تراب بيحيا... وحيّ بيصير تراب
الأصل هو الموت ولا الحياة؟
عَجَبِي!!!
هذه الرباعية من رباعيّات الشاعر المصري صلاح جاهين هي تأملٌ فلسفيّ عميق في لغز الوجود الإنساني. فيها تتقاطع الأسئلة الأولى عن الحياة والموت، الأصل والمصير، التراب والروح، مع التوق البشري للمعنى.
أولًا: قراءة فلسفية وجودية
يتأمل جاهين ما يُشبه "دورة الكينونة" بين العدم والوجود، بين ترابٍ يحيى وحيٍّ يعود إلى التراب.
إنّها رباعية تلامس بعمق سؤال الفلسفة الأوّل: لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟
هي تصوغ بلغة شعرية شعبية ما يُعبَّر عنه فلسفيًّا بمفهوم الوجود من أجل الموت (Sein zum Tode) عند هايدجر، حيث يُدرَك الإنسان بوصفه كائنًا يعي نهايته، ويعيش تحت ظلّ هذا الوعي.
الحيرة في "قلت: ياه" مرّتين ليست مجرّد تعجّب، بل صدى لذهول الإنسان أمام لغز وجوده: من أين أتى؟ وإلى أين يمضي؟ وما معنى أن "يحيا التراب" و"يعود الحيّ ترابًا"؟
ثانيًا: قراءة لاهوتية مسيحية
١. الخلق من العدم – Creatio ex nihilo
تبدأ الرباعية بإعلان أن "ابن آدم خرج من العدم"، وهذه عبارة تتوافق مع العقيدة المسيحية حول الخلق من لا شيء، كما ورد في دستور الإيمان في المجمع الڤاتيكانيّ الأوّل (Dei Filius، الفصل الأوّل):
«الله، في طيبته وقدرته، خلق العالم من العدم بإرادة حرّة».
٢. العودة إلى العدم؟ توتّرٌ لاهوتيّ
"رجع ابن آدم للعدم" تعبير شعري، لكنه يصطدم بالإيمان المسيحي القائل إنّ الموت ليس نهاية في العدم، بل عبورٌ نحو الله. الموت ليس اختفاءً، بل لقاء. كما يعلّم التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (رقم ١٠٢٠):
«المسيحي الذي يضم موته الخاص إلى موت المسيح يرى في الموت انطلاقًا إليه ودخولًا في الحياة الأبديّة».
٣. "تراب يحيا"... ورجاء القيامة
الرباعية تصوغ في بساطة عبارة سفر التكوين:
«أنت تراب، وإلى التراب تعود» (تك 3: 19).
لكن الإيمان المسيحي لا يتوقّف هنا. الإنسان مخلوق من التراب، نعم، ولكن فيه نفخة من روح الله (تك 2: 7).
في القيامة، سيعود التراب إلى الحياة. فالإنسان مدعوّ إلى ملء الحياة، لا إلى الذوبان في العدم.
٤. "الأصل هو الموت ولا الحياة؟" – قلب السؤال
هذا هو السؤال الوجوديّ واللاهوتيّ الكبير.
الإيمان المسيحي يجيب بوضوح:
الحياة هي الأصل.
لأن الله «إله أحياء لا إله أموات» (مر 12: 27). والموت دخيل على الخليقة، دخل بسبب الخطيئة (راجع روم 5: 12). لكن المسيح قهره بقيامته، وصار لنا فيه رجاء:
«أين شوكتك يا موت؟» (1 كور 15: 55).
في النهاية، تقدم لنا رباعية جاهين مادة خصبة للتأمل في سرّ الوجود، بين الفناء والميلاد، بين الحيرة والرجاء.
في ضوء القيامة، تُصبح الحيرة بداية الحكمة، و"العَجَب" بداية الرجاء.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ