د. أماني فؤاد
وارد أن ننقسِم فِرَقًا ونتجادل، يُبرز بعضنا أجمل ما فى هُوَيتنا، ويصدِّرها لواجهة المشهد، نقطة ضوء، نظرة متفائلة لإمكانية تخطِّى المصائب، والقدرة على تصويبها، وإيجاد حلول واقعية. بعضنا الآخَر ينشب أظافره فى قلب الوطن، يقطِّع أوصاله فى انعدام ضمير، تزييفًا للحقائق وتوجيهها على المدى الأوسع، إما كراهة ترسبت بأعماقهم، لعدم تحقُّق هؤلاء الأفراد فى مواقعهم، أو مدفوعين من دُوَل لا تريد لمصر إلا التفكك، فتطلِق تلك الأبواق العفِنة وتموِّلها. كما يقف بعض المصريين متفرِّجًا، فرِحًا فى المصائب واللجاج، واشتعال الحرب الإعلامية على المواقع والقنوات والصفحات الإعلامية.
لا تمُر على مصر شهور قليلة دون مواجهات وتحديات كبرى، سواء كانت اقتصادية، أو سياسية، أو أمنية. وسواء كانت داخلية أم خارجية، فى هذه الأوقات الحرِجة، تصطف الحناجر المسمومة لتشكِّك فى كل شيء، فى القيادة والحكومة والمؤسسات، فى كل شخص أو قيمة أو معنى من حولنا.
وهنا لنا أن نتساءل هل باتت الكراهية عنوانا للمرحلة!؟ أين الوطنيون الصادقون العقلاء، غير المتلوِّنين، الذين يتحلَّون بالمصداقية؛ حيث بإمكانهم مواجهة مَن يشيطنون المشهد اليومى بكل تفاصيله فى مصر؟ كما يقفز السؤال الآخَر الموضوعى: لماذا يتحول الهجوم على الحكومة إلى حالة صاخبة على هذا النحو؟
أحسب أن الضغوط الاقتصادية المتزايدة، أحد أهم المحفزات الرئيسة للنقد. فعندما يواجِه المواطن صعوبة فى تلبية احتياجاته الأساسية؛ ترتفع حدة السخط الشعبى، ويصبح توجيه اللوم للحكومة أمرًا طبيعيًا. وتحميلها مسئولية الفشل، وغلاء الأسعار، وتدهور قيمة الجنيه، والبطالة.
كما أن الشعور بعدم الشفافية، وغياب التواصل الفعَّال فى الأزمات، يؤجج الرفض، حيث يحتاج المواطن إلى الفهم والطمأنة، من خلال خطوات تتخذها الحكومة؛ لمواجهة التحديات. فغياب الشفافية، أو الشعور بأن المعلومات تُحجب؛ يولِّد حالة من عدم الثقة والقلق، فيدفع البعض إلى افتراض الأسوأ، وسيطرة النقد اللاذع المتخبِّط.
كما أن الخوف على المستقبل هاجس مدمِّر، فشعور المواطنين بالخوف والقلق يمكن أن يتحوَّل إلى غضب، ورفْض للسُّلطة، لعدم قدرتها على توفير الأمان للمستقبل.
كما أن تراكُم المشكلات المزمنة منذ عقود كثيرة، تلك التى لم يتم معالجتها بشكل جذرى، يُعَد سببًا للكثير من الأزمات الراهنة، وحين تتصدَّى لها القيادة الحالية وتواجِهها؛ تتحمل بمفردها مسؤولية هذا الإرث، الذى ترتَّب على ترحيل الحلول؛ مخافة رفْض الجموع وثورتهم وقْتها.
كما لا يمكن إغفال دور التأثيرات الخارجية والأيدى الخفية، حيث الأجندات التى تسعى إلى استغلال حالة السخط الداخلي؛ لخدمة أطماعها. ويتم هذا من خلال نشْرهم للشائعات، وقلْب الحقائق، بتأويلها المغالِط، وتضخيم المشكلات القائمة لتأجيج السخط الشعبى.
وتبرُز هنا مشكلة مؤرِّقة وحقيقية، فللهجوم العشوائى على القيادة والحكومة فى الأوقات الصعبة تداعيات سلبية خطيرة، أوَّلُها إضعاف الجبهة الداخلية، كما يُحدِث انقسامًا بين فئات المجتمع، مما يقلِّل من قدرة الدولة على مواجهة الأخطار.
كما أن النقد المفرِط، وغير المؤسَّس على المنطق، يمكن أن يقوِّض ثقة المواطنين فى المؤسَّسات، وقدرتها على إدارة الأزمات، وهو ما قد يؤدِّى إلى حالة من الإحباط العام والفوضى.
كما أن للضغط الشعبى، والنقد المستمر، تأثيرًا فى التردُّد فى اتخاذ قرارات حاسمة، خاصة تلك التى قد تكون مؤلِمة على المدى القصير، ولكنها ضرورية على المدى الطويل. وهو ما يوجِد ساحات لعِب للشياطين؛ فيتحالف الأعداء والمتربِّصين، الذين لديهم أهدافهم.
فى الأوقات الحَرِجة، تزداد الحاجة إلى نقْد بنَّاء ومسؤول، هدفه الإصلاح والتحسين، لا الهدم وإثارة الفوضى، كما أنه من الضرورى أن تكون الحكومة أكثر انفتاحًا وشفافية، بتعزيز قنوات التواصل مع المواطنين، والاستماع إلى همومهم ومخاوِفهم بجِدية، والتحلِّى بمرونة المبادرات.
الفارق كبير للغاية بين وعى المواطنين الموضوعى، الذى يهدف إلى تصحيح المسار، وبين الهجوم غير المبرَّر؛ الذى قد يعرِّض أمن واستقرار البلاد للخطر.
إن تجاوُز الأزمات يتطلَّب تضافر جهود الجميع، قيادةً تعمل بجد وإخلاص، وحكومة تتسم بالشفافية والفاعلية، وشعبًا واعيًا، ومتخصِّصًا مسؤولًا فى المجالات كافة، يمارس حقَّه فى النقد بحكمة، دون شخصنة، مدرِكًا أن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
كما أن نقْدَ الحكومةِ البنَّاءَ نقيضُ مهاجمة الوطن، والحفاظ على وطننا يلزمنا التعبير عن آرائنا ومخاوفنا، لا الانجراف وراء كل صوت مبتور، يناسل ضغائنه.
يمكننا ألا نشكِّك فى شخص أو مؤسَّسة، لكن بمقدورنا التعبير عن الرأى فى سياسات وإجراءات وأداء المسؤولين، على أن يكون النقد مبنيًا على معلوماتٍ وحقائقَ، وموجَّهًا نحو إيجاد حلول، لا مجرد الهجوم والتجريح.
فالهجوم على الوطن بالجملة يعنى المساس بكيان الدولة، بثوابتها، بتاريخها، شعبها، رموزها الوطنية، وتعريض سيادتها بشكل ما للتشكيك. وهو عمل يهدف إلى زعزعة الاستقرار، إثارة الفتنة، أو التشكيك فى الانتماء الوطنى.
كيف نحافظ على مصر ونمارس النقد البناء؟
علينا أن ندرك دائمًا أن الحكومة هى أداة لإدارة شؤون الوطن، وليست الوطن نفسه. إن حُب الوطن يعنى الحرص على استقراره وتقدُّمه، وهذا بالطبع يتطلَّب نقدًا بنَّاءً لمَن يتولَّون المسؤولية فيه.
كما يتعين التركيز على طرُق حلول القضايا؛ أى تحديد المشكلات القائمة واقتراح الحلول الممكنة، بدلاً من الهجوم الشخصى أو التعميمات السلبية. أتعجَّب ممَّن يصبغون المشهد تمامًا بالأسود، وأتساءل: لصالح مَن، هل بإمكان السواد أن يحِلَّ مشاكلنا، أم يدفع باليأس لدى الجميع، وهل نَعِى ما يُحاك حولنا من كل اتجاه، ننتقد ونشير للحلول ونبادر بها، نشير لنِقاط الضوء والإنجازات، بموضوعية، مستندين إلى الحقائق والمعلومات الموثوقة، لا عن عدم عِلم، ولا بالاستماع لفئة مغرِضة تقلِب نجاحاتِ وإيجابياتِ هذا الوطن لدسائسَ ومصالحَ وفسادٍ ومكاسبَ شخصية، يتعيَّن حين نتحدث، أن نبنى آراءنا على معلومات دقيقة وموثوقة، ونتجنب الشائعاتِ والمعلوماتِ المضلِّلةَ، التى قد تُستخدم لإثارة البلبلة وتشويه الحقائق.
فعند وجود خلافات عميقة؛ يتعيَّن أن نحرِص على التعبير عن آرائنا بشكل حضارى ومسؤول، يحترم الرأى الآخَر، ويحافظ على النسيج الاجتماعى المتآلف، فالعنف اللفظى أو التحريضى لا يخدِم إلا الأعداء المتربِّصين بمصر. كما أن على المتخصِّصين الإدلاء برأيهم من خلال قنوات وطنية ومؤسَّساتية، مثل الحوارات المجتمعية، المشارَكة فى العمل العام، أو حتى عبْر وسائل التواصل الاجتماعى، بمسؤولية ووعى. الهدف هو المساهَمة فى البنْية لا الهدْم.
فى حادثة حريق سنترال رمسيس، شاهَدنا المشارَكة الإيجابية من أبناء مصر، الذين بادَر المتخصِّصون منهم فى هندسة الاتصالات بالمساعدة فى إعادة تشغيل الخطوط، وهو المعهود عن المصريين الأُصلاء، ففى الأوقات الصعبة، نتمسَّك أكثر بقِيَمِنا، حيث التكاتُف، الصبر، الإصرار، والتضحية من أجْل الوطن. هذه القِيَم هى دِرعنا الصَّلد فى مواجهة أيِّ تحدٍّ.
كما علينا ألَّا نتخلَّى عن وعى يقِظ، يدرِك أن هناك مَن يتربَّصون بمصر، ويسعَون لاستغلال أيِّ حالة من السخط الشعبى، أو الفوضى؛ لزعزعة استقرارها. فالتفريق بين النقد الوطنى البنَّاء وكشْف الأجندات المشبوهة أمرٌ حيوى.
إن حُبَّ الوطن الحقيقى لا يعنى السكوت عن الأخطاء، بل يعنى العمل على تصحيحها بكل السُّبُل المشروعة والمسؤولة، مع الحفاظ على وحدة الصَّف، وتماسُك الجبهة الداخلية. مصرنا أساس وجودنا، ونقْد الأداءات السلبية بموضوعية وسيلةٌ لتقوية هذا الوجود لا تقويضه.
نقلا عن المصري اليوم