ماهر الجاولي
يُحكى أنّه في زمنٍ غريبٍ غابت فيه الأعرافُ وعَمَّت التناقضات؛ زمنٍ لا يعبأ فيه الأغنياءُ بمعاناة الفقراء، أولئك الذين يشترون أحلامهم بالدَّيْن، ويبيعون أعمارهم بالقطعة، ثم يفقدون حياتهم مقابل بضعة جنيهاتٍ لا تُشْبِع ولا تُغني من جوع.
وقعت مأساةُ الفناء في قريةٍ نائيةٍ على أطراف مدينةٍ منسيّة. في ذلك الصباح استيقظت الشمسُ على موكبٍ من الفتياتِ في عُمر الزهور؛ انحشرْنَ في قفصٍ حديديٍّ متهالكٍ يُسمّى حافلةً. تَسَلَّحْنَ بالأمل، وببعض الدعاء، وبقليلٍ من الطعام، بينما سبقتْهُنَّ أعيُنُهُنَّ طريقٌ محفوفٌ بالحُفَر والصمت… ولم تكن أيُّ واحدةٍ منهنَّ تعلم أنّ هذا الطريق سيكون آخرَ ما تراه عيناها.
في لحظةٍ فاصلةٍ بين الحياة والموت، اختلط الحديد باللحم، وانقلبت الحافلةُ نعشًا جماعيًّا عندما ارتطمت بشاحنةٍ ضخمةٍ على الطريق الدائريّ الإقليميّ. صمتت الأصوات، وسقطت الأرواح، وتبعثرت الأحلامُ بين الإسفلت والدم.
ولم يكن في الأمر ما يُدهِش؛ فهكذا هي الحياة منذ زمنٍ بعيد: تَسحقُ الضعفاءَ وتبتلع آمالهم، وربما تقودهم إلى حتفهم مقابل أقلّ القليل.
في المساء، وبعد أن وارَيْنَهُنَّ التّراب، أعلنت الحكومةُ صرفَ تعويضاتٍ عن إزهاق الأرواح، وانبرى المسؤولون يفاخرون بأنّ المبلغ يفوق ما كانت الفتياتُ سيجمعْنه في عامٍ كاملٍ من العمل. دفعةً واحدةً قُبض الثمنُ المؤلم: أرواحٌ عزيزةٌ مقابل مالٍ لم ينَلْهُنَّ في الحياة.
وفي جنازة شقيقته سأل طفلٌ صغيرٌ:
«هو إحنا أرخص من كيلو لحمة؟»
لم يُجبه أحد؛ فقد عقد الفقرُ الألسنةَ في زمنٍ يُقاس فيه العُمرُ بمائةٍ وثلاثين جنيهًا.