د. رامي عطا صديق
يتندر البعض قائلًا: «إن مصر لكى تتقدم لا بد أن ترجع إلى الوراء»، هذه المقولة وإن كانت تحمل بعض المبالغة، فإن مغزاها الإشارة إلى حالة التقدم التى عاشتها مصر فى مراحل سابقة، وتلك الإنجازات التى حققها المصريون فى فترات زمنية ماضية، فى كثير من مجالات الحياة وفروع المعرفة الإنسانية، وصار الأبناء والأحفاد من الأجيال اللاحقة يتباهون ويفتخرون بها بين الأمم. وإن كان الحاضر لا يخلو أيضًا من إنجازات هنا وأخرى هناك، مع بعض الصعوبات والتحديات، وهى طبيعة أى مرحلة، لكن يبدو أن الإنسان/ المواطن يميل بطبيعته إلى عقد المقارنات بين الحاضر والماضى، رغبة منه فى تجاوز المشكلات وحلها، واسترداد كل ما هو راقٍ وجميل، حتى إن كثيرين يرددون عبارة: «فين زمان وأيام زمان؟!».
ومؤخرًا، كتب المهندس صلاح دياب مقالًا فى جريدة «المصرى اليوم»، يوم الأحد ١٥ يونيو الجارى، تحت عنوان: أى «ردة» نختار؟!!، نفهم منه أن الردة عن الطريق الذى نسير فيه قد تكون مُفيدة أحيانًا، وقد تكون غير ذلك فى أحيان أخرى، وهو فى ختام مقاله كتب يقول: «طريقان، أحدهما يؤدى إلى التخلف والتراجع، والآخر يقود إلى النهضة والتقدم، وعلينا أن نختار، أى ردة نريد».
وفى تقديرى، فإن الولع بإنجازات الماضى له أسباب ومبررات، أمام بعض الإخفاقات وبعض التحديات والصعوبات التى نواجهها فى الوقت الراهن، ولعل من يقرأ تاريخنا القديم والحديث، يكتشف كيف أن مصر قد حملت تراثًا ثريًا وميراثًا غنيًا من النجاحات والانتصارات، تجلت فى كثير من المجالات، شملت مشروعات اقتصادية وأنشطة اجتماعية وفعاليات ثقافية..، وكيف أن مصر تميزت طوال الوقت بقوتها الناعمة والذكية، ما جعلها دولة رائدة فى المنطقة العربية، ولها سمعتها العالمية، حتى إن البعض يقول: «جاءت مصر ومن بعدها التاريخ»، فى إشارة إلى عظمة مصر ومكانتها، وإن لم يخلُ الماضى بالطبع من بعض الإخفاقات وصور الفشل.
مصر هى الدولة الوحيدة حول العالم التى لها علم باسمها، هو علم المصريات، حيث يدرس الأجانب الحضارة المصرية القديمة فى مدارسهم ومعاهدهم العلمية، وهناك أيضًا علم القبطيات، الذى يهتم به باحثون مصريون وأجانب حول العالم. ولا أبالغ إذا قلت إن مصر من الدول القليلة التى بها متاحف كثيرة ومتنوعة، بلغت «٨٤» مُتحفًا، بحسب إحصائيات عام ٢٠٢٠م، منها متاحف أثرية وأخرى تاريخية وفنية وعلمية وطبيعية وشخصية، بالإضافة إلى متاحف نوعية، مركزية وإقليمية، ما يعكس تنوع الحضارة وغنى الثقافة على أرض مصر التى يمتد عمرها لآلاف السنين.
وإذا كانت مصر قد مرت بفترات من التراخى والانحدار، لأسباب سياسية أو ظروف اقتصادية واجتماعية، فقد شهدت سنوات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين جهودًا طيبة ومحمودة غرضها العودة إلى مسار النهضة، بلغت ذروتها بعد ثورة سنة ١٩١٩م وطوال السنوات التالية، حيث أدرك المصريون شيئًا فشيئًا أهمية التعليم، والعمل الأهلى، والتنوير الثقافى، وتحرير المرأة، وتحديث المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية، حيث الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، وعاشت مصر تجارب متنوعة فى الاستقلال الاقتصادى، اهتمت بالزراعة والصناعة والإنتاج والتصدير، شملت تأسيس المصانع والشركات.
وهناك مشروعات عظيمة انطلقت بفضل تعاون المواطنين ومساهماتهم، ففى التعليم العالى برز مشروع الجامعة المصرية الأهلية (جامعة فؤاد الأول ثم جامعة القاهرة) التى درس فيها كثيرون من داخل مصر وخارجها، بالإضافة إلى تأسيس عدد كبير من الجمعيات والمؤسسات الأهلية التى أقامت مشروعات خيرية عظيمة، شملت المدارس والمستشفيات والملاجئ والمشاغل..
وبرز كثيرون فى الفن بمختلف أنواعه وضروبه، فى الفنون التشكيلية والموسيقى والأغانى وصناعة الأفلام السينمائية والمسرحيات والمسلسلات الإذاعية والتليفزيونية، ما جعل اللهجة المصرية معروفة لجميع الأشقاء العرب بفضل هذا الإنتاج الفنى المتميز. وقدم المصريون إسهامات علمية فى مختلف العلوم الإنسانية والتطبيقية، وإبداعات أدبية فى الشعر والزجل والقصة والرواية، وتأسيس مشروعات صحفية وإعلامية رائدة فى مصر والعالم العربى، كما وضع المصريون مناهج التعليم فى بعض الدول العربية.
ونتذكر أنه فى عام ١٩٢٥م حصلت القاهرة على وسام أجمل وأنظف مدينة على مستوى العالم، أمام منافسة عواصم أوروبية كبيرة وعريقة، منها لندن وباريس وبرلين وفيينا وجنيف، وكان سكان المدن الكبيرة حين تتجمل مدنهم، يفتخرون أنها أصبحت راقية ونظيفة مثل مدينة القاهرة. وبالمناسبة، دخلت القاهرة العام الماضى (٢٠٢٤م) قائمة أفضل ١٠٠ مدينة سياحية فى العالم، وفقًا لأحد التصنيفات.
وإذا كان من الصعب أن تدور عجلة الزمن وترجع إلى الوراء، فإنه من السهل -ولكى تتقدم مصر- أن نقرأ التاريخ قراءة واعية، حتى نتعلم ونستفيد من المواقف والأحداث، والرؤى والأفكار، ومسيرة الشخصيات المُلهِمة، ونحن نعيش الحاضر ونتطلع إلى المستقبل.
نقلا عن المصرى اليوم