حنان فكرى
في بلادٍ تصلي لله كل يوم، لم يعد الدعاء كافيًا لصدّ الرعب. وفي أوطان تعودت على النكبات، لا تزال بعض الفواجع تحتفظ بقدرتها على إحداث الصدمة. هكذا كانت كنيسة مار إلياس بدمشق، حين انقلبت من بيتٍ الله المختوم للرجاء إلى ساحة للدم.
لم يكن أحدٌ يتوقّع أن يتحوّل نهار الأحد في “مار إلياس” إلى لحظة انفجار الألم، راحوا يصلون ويشعلون الشموع في عتمة المحن. فصاروا قربانا على مذبح الطائفية والارهاب،. وفي لحظة خاطفة، انقلب الرجاء إلى رعب، والتراتيل إلى عويل، فرياح الرعب لا تستأذن أبواب بيوت، انطفأت الأنوار داخل الكنيسة لتشتعل أجساد المصلين.. سقط الشهداء الحالمين الذين أصرّوا على البقاء وتشبّثوا بوطنهم، حتى بعد ان ايقنوا ان اللعبة فيه تدار بأصابع مشبوهة، وترسم حدود المواطنة فوق خرائط الخوف والطائفية.
في شوارع الدويلعة.. القرية الكائن بها كنيسة مار الياس، خرج الغضب المسيحي مكسوًّا بالرموز والدموع. صلبان خشبية، ورايات بيضاء عليها صليب أسود، ودراجات تحمل شبابًا يهتفون من أعماق الجرح: “المسيح قام… حقًا قام… والمسيح حاميني”. كانوا يزفّون شهداءهم كما يُزفّ العريس إلى عروسه، يرقصون حاملين صناديق الشهداء فرحا بالاستشهاد واحتراقا بالأحزان.
لكن بدلًا من أن ينصت بعض المحللين إلى هذا الوجع، خرجوا يتهمون هذه الجنازات بأنها استعراض طائفي! فكيف يطلبون من المذبوح الصمت حتى لا يُتّهم بالشغب؟ كيف يطلبون من المصلين الذين فُجّرت كنائسهم أن يبتلعوا الحزن في هدوء؟ لأولئك اقول الفارق كبير بين الغضب والعنف، فالغضب حق مشروع حين يتم اغتيال الأمان، أما العنف الحقيقي فهو ما أتى يحصد الأرواح داخل بيت الصلاة.
إياكم أن تخطئوا قراءة الصلبان السوداء على الرايات… إنها ليست دعوة للعنف، بل انني اراها تحذيرا من أن اليأس قد يدفع بالمقهورين للدفاع عن الوجود بالسلاح. وهم لا يريدون السلاح، بدليل انهم باقين حتى اليوم في سوريا رغم كل الأهوال التي عبروا بها، فقط يريدون الامان والتمسك بالإيمان عبر صلاة تُصان، وكرامة تُحترم، ومواطنة لا ينحرها الإرهاب على مذبح العقيدة، ولا يتجاوزها الجولاني على مذبح الصمت.
25 شهيدًا ارتقوا في كنيسة، لا ذنب لهم سوى الإيمان. ارتفعت أرواحهم، وبقي الجسد السوري ينزف تحت تجاهل نظامٍ يلفق بيانا لالصاق التهمة بداعش، ينما تخرج جماعة “سرايا أنصار السنة” لتكذبه معلنة مسؤوليتها عن الحادث، وتتوعد العلويين ايضا، على أي حال داعش وكل الجماعات التكفيرية يعملون لصالح نفس الأفكار، داعش فكرة قبل ان يكون تنظيم، لا تهم الأسماء.
وهكذا النظام الذي يدعي حماية الأقليات، صمتَ يوم أُبيدوا داخل معبدهم. يوم سقوط الثقة التي يجاهد المسيحيون بالكاد في ترميمها منذ ستة اشهر هي عمر سلطة الاملا الواقع التي تدير سوريا بوجهٍ يبدو مدنيًا لكنه يخفي أنياب التشدد، وتُعيد إنتاج مناهج الكراهية بلغة مخففة. الكنائس مُغلقة، والمسيحيون مُطارَدون، والخوف هو القانون الوحيد.
والسؤال الآن: هل ما زالت سوريا تتّسع لكل أبنائها؟ أم أن الوطن صار حكرًا على اتباع الجولاني؟ ما يحدث ليس معركة عقائد، بل امتحان وطن. والصلبان التي ارتفعت في شوارع دمشق، ليست تمردًا… بل استغاثة. صرخة تقول: نحن هنا، ولن نغادر. صرخة تقول: لا تتركونا وحدنا في الموت.
نقلا عن وطنى