هاني لبيب
فى قلب الجدل اليومى الإعلامى المرتبط بالحرب الإيرانية – الإسرائيلية، يتجلى ما يمكن أن نطلق عليه «العمى السياسى» العالمى بصورة واضحة جدًا.. تتحدد ملامحها فيما تم تصديره للعالم من وهم امتلاك إيران لقوة ردع مطلقة، وغطرسة قوة إسرائيل العسكرية المرتكزة على منظومة إعلام دولى.. يروج لفكرة حق يراد بها باطل، وهى الدفاع عن النفس.

ما يحدث الآن، وما حدث قبل ذلك مع ما عانى منه الشعب الفلسطينى من مأساة إنسانية.. يؤكد أننا أمام أزمة ضمير سياسية وأخلاقية لا مثيل لها من قبل دون وجود حقيقى لما يسمى المجتمع الدولى وبمعنى أدق مؤسسات حقوق الإنسان الوهمية التى صمتت عن أكبر إبادة جماعية إنسانية فى العصر الحديث.

عشنا سنوات طويلة تحت وهم ما يصدره لنا إعلام الملالى من قوة إيران، واعتبارها قوة إقليمية قادرة على مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية معًا. وأكدت ذلك من خلال اعتمادها فى جزء كبير من أدواتها القتالية على وكلاء غير نظاميين، مثل: حركة حماس فى فلسطين، وحزب الله فى لبنان، والحوثيين فى اليمن، وجماعات موالية فى سوريا والعراق. وهو ما تأكد عدم فعاليته، وأنه لا يرتقى فى كل الأحوال إلى مستوى الدولة الحديثة. كما أن الواقع العسكرى والتكنولوجى.. كشف عن هشاشة هذه الفرضية الوهمية. المفارقة أن الآلة الإعلامية الإيرانية وبعض وسائل الإعلام العربى الموالى لها.. تعيد إنتاج خطاب «الردع»، وتفتخر بقيمة الصواريخ الدقيقة والهجمات الاستراتيجية. وفى الوقت نفسه.. تتجاهل محدودية الأثر الفعلى لهذا الوهم، مقابل سطوة سلاح الجو الإسرائيلى والتفوق التكنولوجى الهائل فى مجالات الحرب السيبرانية والاستخبارات.

على الجانب الآخر، لا يمكن فهم السلوك الإسرائيلى سوى فى إطار ما روجوا له دائمًا عن غطرسة القوة التى سقطت قبل ذلك مع تدمير خط بارليف فى نصر ٦ أكتوبر ٧٣. ورغم ذلك، تتصرف دائمًا من منطلق كونها صاحبة الضربة الأولى.. تحت غطاء إعلامى دولى يصورها دائمًا ببراءة باعتبارها.. ضحية دائمة تدافع عن نفسها، حتى وهى تدمر مدنًا بأكملها وتدفن آلاف الأطفال تحت القصف. والمبرر سابق التجهيز أن إسرائيل تدافع عن نفسها.

على مر السنوات، لم يعترف الخطاب السياسى الإسرائيلى بالمدنيين الفلسطينيين، سوى كونهم مجرد أرقام هامشية، وهو خطاب عنصرى.. يتسق مع التواطؤ الغربى الذى يرى فى كل إنسان فلسطينى مجرد قتيل، بينما يرفع درجة الاستنفار العالمى عند قتل جندى إسرائيلى واحد.

لا يزال الشعار الأكثر تكرارًا فى الإعلام الغربى هو أن «إسرائيل تدافع عن نفسها». وهو المفهوم الذى تحول إلى قناع سياسى.. يصادر خلفه كل جرائم الحرب والإبادة الممنهجة من قصف المستشفيات، واستهداف المدنيين وغيره كثير..

لم يعد هذا الشعار.. مجرد تبرير، بل بات عقيدة إعلامية فى الإعلام الأمريكى والبريطانى.. حتى تشوه الوعى الجمعى الغربى، وأصبح لا يرى إلا ما يعرض عليه بشكل موجه وممنهج. بعدسات السياسة المنحازة.

يتم قصف غزة لما يقرب من سنتين، ولم تتحرك الأمم المتحدة إلا ببيانات الإدانة والشجب، وذهبت جامعة الدول العربية فى خبر كان. ولم تنجح أى محكمة دولية فى تحريك قضية واحدة ضد مجرمى الحرب. فى مشهد عبثى يمثل حالة من الانهيار الأخلاقى الإنسانى الكامل. رواد حقوق الإنسان ومنظماتهم التى كانت ترفع شعاراتها فى أى احتجاج، أصابها اليوم الصمت الأسود أمام أشلاء الأطفال الفلسطينيين. وبدت المنظمات الكبرى مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية.. وكأنها فقدت الشجاعة، أو أُجبرت على الحياد المميت.

أعتقد أن الحرب الإيرانية - الإسرائيلية ليست إلا جزءًا من مشهد أكبر.. يعاد إنتاجه مرة ثانية بوقاحة.. تعبر عن قوى تتصارع على النفوذ، وشعب يباد فى صمت.

إيران تتوهم أنها قادرة على كسر إسرائيل، وتعيش إسرائيل على وهم التفوق الأخلاقى. بينما الحقيقة العارية أن كليهما.. يدفع المنطقة فى دوامة لا تنتهى من العنف، على حساب الشعوب.

نقطة ومن أول السطر..
ما لم يُقل بعد.. ستستمر إسرائيل فى تصدير نفسها فى صورة الضحية البريئة، ما دامت تسيطر على أدوات الإعلام العالمى. وستستمر إيران فى أوهامها العدوانية.. ما دامت تجد من يصدقها ويتعاطف معها. ولكن ما لن يدوم هو هذا الصمت العالمى الأسود.. لأن التاريخ لا يرحم، وذاكرة الإنسانية لا تموت.
نقلا عن المصرى اليوم