(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)
لكي نفهم معًا بضعةَ محاورٍ من الشّهر الأوّل من حبريّة البابا لاوُن الرَّابع عشر، نستكمل –على حَلَقَاتٍ مُتَسَلْسِلَة، وهذه هي الحَلَقَة الثّالثة– عناصر وموضوعات أُخرى متنوّعة وبارزة في هذا الشّهر المنصرم، مستعينًا بحزمةٍ من أقواله ذاتها.
خامسًا: الكنيسةُ وبُعدُها الإرساليّ
كلُّ مؤمنٍ مسيحيّ، سواء كان عَلمانيًّا أو راهبًا أو حاصلًا على درجة من الرُّتبة الكهنوتيّة، كلٌّ بموهبته، مدعوٌّ إلى محبّة الكنيسة –جسد المسيح– والانتماء الحقيقيّ لها، على مستوها المحليّ ومستوها الجامعيّ. فيحثّنا البابا لاوُن الرَّابع عشر على قبول دعوة القدّيس أغسطينُس، التي فحواها يكمن في هذه العبارة المهمّة للغاية: «أحبّوا هذه الكنيسة، ابقوا في هذه الكنيسة، كونوا هذه الكنيسة» (العِظة 138، 10).
ومن جِهة أُخرى، إنّ الكنيسةَ التي يسعى إليها البابا لاوُن الرَّابع عشر، إضافةً لكونها مُحِبّةً ومتّحدة، وعلامة على الوَحدة والشّركة، ينبغي لها أن تكون مُرسَلةً أيضًا. فالرّسالة-الإرساليّة ليست مجرّد نشاطٍ تقوم به الكنيسة، وإنّما بُعدٌ أساسيّ من جوهرها وكينونتها. فوفقًا للمجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني (1962-1965)، تُعدُّ الكنيسةُ أثناء حَجّها ورحلتها على الأرض مُرسَلةً ومبشِّرة بطبيعتها (مرسوم "إلى الأمم"، بند 2). وفي هذا الصّدد، قال البابا لاوُن الرَّابع عشر: «الوحدة والنّشاط الإرساليّ ركنان أساسيان في حياة الكنيسة، وأولويّتان في الخدمة البُطرسيّة. لذا، فأدعو جميع الجمعيّات والحركات الكنسيّة إلى التّعاون بإخلاصٍ وسخاءٍ مع البابا، لا سيّما في هذين المجالين».
ومنذ تحيّته وبركته الأُولى لمدينة روما وللعالم (8 مايو/أيَّار 2025)، نَطَقَ البابا لاوُن الرّابع عشر بهذه الكلمات المهمّة للغاية: «يجب علينا أن نسعى معًا لنعرف كيف نكون كنيسة مرسلة، وكنيسة تبني الجسور، والحوار، ومنفتحة دائمًا على الاستقبال، مثل هذه السّاحة، بأذرع مفتوحة للجميع، ولكلّ من هو محتاج إلى محبّتنا، وإلى حضورنا، وإلى الحوار والمحبّة».
أجل، علينا أن نكون كنيسةً مُرسَلة وإرساليّة؛ فالنّشاط الإرساليّ جوهرىّ بالنّسبة لها كجماعةٍ، وكأشخاص المؤمنين، كما أوضح في حديثه الموجّه إلى "مسؤولي الكوريا الرّومانيّة وموظفي الكرسي الرّسوليّ" (24 مايو/أيَّار 2025).
على نحوٍ عمليّ ورعويّ، يجب أن تكون الرّسالة-الإرساليّة هاجسًا أساسيًّا لكلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا: «هذا هو روح الرّسالة الذي يجب أن ينعشنا، دون أن ننغلق على أنفسنا في مجموعتنا الصّغيرة، ودون أن نشعر بأنّنا أرفع مستوى في العالم. نحن مدعوّون إلى أن نقدّم محبّة الله للجميع، حتّى تتحقّق الوَحدة التي لا تُلغي الاختلافات، بل تثمّن التّاريخ الشّخصيّ لكلّ شخص، والثّقافة الاجتماعيّة والدّينيّة لكلّ شعب».
سادسًا: الزّواجُ المسيحيّ والعائلات
في الحقبة المعاصرة، لا يخفى على أحدٍ أنّ حقيقةَ الزّواج والعائلة تمرّ بأزمةٍ، وثمّة اعتراضاتٌ وصعوبات ومعوّقات شديدة تكاد تعصف بها. ولكنّ البابا لاوُن الرّابع عشر مقتنعٌ –بقلبٍ مفعم بالشُّكر والرّجاء– بأهمّيّة الزّواج والعائلة للبشريّة والمجتمع والكنيسة، وبموقعهما في مخطّط الله الخالق: «مستقبل الشعوب يُولَد في العائلات [...] إنّ الزّواج ليس مجرّد مثال ونموذج، بل هو معيار الحبّ الحقيقيّ بين الرّجل والمرأة: حبّ كامل، وأمين، وخصب». وكذلك، «في العائلة، يُنقل الإيمان مع الحياة، من جيل إلى جيل: تتمّ المشاركة فيه كما تتمّ المشاركة في طعام المائدة ومحبّة القلب. وهذا ما يجعل العائلة مكانًا مميّزًا للّقاء بيسوع، الذي يحبّنا ويريد خيرنا، دائمًا».
في الحقيقة، إن كانت الكنيسةُ برّمتها "عائلةَ الله"، فإنّ العائلات المسيحيّة كنائسٌ بيتيّة صغيرة، حيث يُقبَل الإنجيل ويُنقَل. ولقد أكّد مثلّثُ الطُّوبى البابا يوحنّا بولس الثّاني (1920-2005) أنّ أصلَ العائلة يكمن في محبّة الله الخالق الذي يعانق ويحتضن العالم الذي خَلَقَه (رسالة "المناسبة الممتعة"، بند 2).
في ما يتعلّق بحقيقة الزّواج المسيحيّ والعائلات المسيحيّة، ودورهما الفعّال، قد صرّح البابا لاوُن الرَّابع عشر، في عِظته بالقُدّاس الإلهيّ الخاصّ بيوبيل "العائلات والأطفال والأجداد وكبار السّن" (1 يونيو/حزيران 2025)، بما يلي:
«في العقود الأخيرة، منحنا الله علامة تملأنا فرحًا، وفي الوقت نفسه تجعلنا نفكّر: أقصد إعلان تطويب وقداسة أزواج، لا كلًّا على حدة، بل معًا، كأزواج متزوّجين ومتّحدين. أفكّر في لويس وزيلي مارتان، والدي القدّيسة تريزا الطّفل يسوع. ويسرّني أن أذكر الطّوباويّين لويجي وماريا بيلترامي كواتروكي، اللذين عاشا حياتهما العائليّة في روما في القرن الماضي.
ولا ننسَ عائلة أولما من بولندا: الوالِدَين والأطفال الذين كانوا متّحدين في الحبّ والاستشهاد من أجل الإيمان. قلت إنّها علامة تجعلنا نفكّر. نعم، بالإشارة إلى الأزواج بكونهم شهودًا مثاليين على الإيمان، الكنيسة تقول لنا إنّ عالم اليوم بحاجة إلى العهد الزّوجي، لكي يعرف ويقبل محبّة الله، ويتغلّب على القوى التي تُفكّك العلاقات والمجتمعات، بقوّتها التي توحِّد وتصالح [...] لذا أشجّعكم على أن تكونوا لأبنائكم مثالًا في الانسجام والصّدق، وأن تتصرّفوا كما تريدون أن يتصرّفوا هم، فتربّوهم على الحريّة بالطّاعة، وتسعوا دائمًا إلى الخير فيهم، وإلى الوسائل الكفيلة لنموّهم. وأنتم، أيّها الأبناء، كونوا شاكرين لوالديكم: قَول كلمة "شكرًا"، على عطيّة الحياة، وعلى كلّ ما يُمنح لنا معها كلّ يوم، هو أولّ طريقة لإكرام الأب والأم (راجع خروج 20، 12). وأخيرًا، إليكم أيّها الجدّات والأجداد الأعزّاء، أوصيكم بأن تسهروا على أحبّائكم، بحكمة ورأفة، وبالتّواضع والصّبر، اللذين تعلّمهما السّنوات».
سابعًا: أُمُومة العذراء مَريم
مِن المعروف أنّه في يوم الإثنين بعد عِيد "العنصرة"، من كلّ عامٍ، تحتفل الكنيسةُ الكاثوليكيّة –وفقًا للطّقس اللّاتينيّ– بعِيدٍ خاصّ بالعذراء مريم، وهو كونها "أُمّ الكنيسة"؛ وذلك منذ حبريّة البابا فرنسيس (2013-2025). ولقد سبق وكرّمت الكنيسةُ العذراءَ مريم رسميًّا بلقب "أُمّ الكنيسة"، منذ حبريّة البابا بُولس السّادس (1963-1978).
في عِظته بالقُدّاس الإلهيّ الخاصّ بيوبيل "الكرسيّ الرّسوليّ" (9 يونيو/حزيران 2025)، في ضوء أيقونتي العهد الجديد الموجودتين في إنجيل القدّيس يوحنّا (يو 19/ 25-34) وسفر أعمال الرُّسل (رُسل 1/ 12-14)، يربط البابا لاوُن الرَّابع عشر بين العذراء مريم والكنيسة (وكلّ مسيحيّ من جهة، والخدمة البُطرسيّة من جهة أخرى)، من حيث الأُمُومة والخصوبة والقداسة. فعلى غرار العذراء مريم (الأُمّ حواء الجديدة، والخَصِبة، والقدّيسة)، ينبغي للكنيسة أن تُظهِر –بأعمالها وأقوالها– الأُمومة والخصوبة والقداسة. وفي هذا السّياق، أكّد البابا:
«أمومة مريم، عبر سر الصّليب، أدّت إلى قفزة لا يمكن تصوّرها: أمّ يسوع صارت حواء الجديدة، لأنّ الابن أشركها في موته وفدائه، الذي هو ينبوع حياة جديدة وأبديّة لكلّ إنسان يأتي إلى هذا العالم. وفكرة الخصوبة حاضرة بقوّة في هذه الليتورجيّا. فقد بيَّنت "صلاة الجماعة" هذا من البداية عندما طلبنا من الآب أنّ يجعل الكنيسة، التي تسندها محبّة المسيح، "أكثر خصوبة في الرّوح". خصوبة الكنيسة هي نفسها خصوبة مريم.
وتتحقّق في حياة أعضائها بقدر ما يعيشون، "بصورة مصغَّرة"، ما عاشته الأمّ، أي يحبّون بمثل محبّة يسوع. كلّ خصوبة الكنيسة والكرسيّ الرّسوليّ تعتمد على صليب المسيح. وإلّا فهي مجرّد مظهر، إن لم تكن أسوأ [...] في الواقع، خصوبة مريم والكنيسة ترتبط ارتباطًا لا ينفصل بقداستها، أي بتشبّهها بالمسيح. ونقول الكرسيّ الرّسوليّ المقدّس، فهو مقدّس كما أنّ الكنيسة مقدّسة، في نواتها الأصليّة، في النّسيج الذي يتكوّن منه. وهكذا، فإنّ الكرسيّ الرّسوليّ يحفظ قداسة جذوره وهو يُحفظ بها. لكنّه يعيش أيضًا في قداسة كلّ عضو من أعضائه. لذلك فإنّ أفضل وسيلة لخدمة الكرسيّ الرّسوليّ هي أن نسعى إلى القداسة، كلٌّ حسب حالته في الحياة والمهمّة الموكولة إليه».
[يُتبَع]