عزت إبراهيم 
في ظل تصاعد الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، بدأت طهران عبر قنوات خلفية ترسل إشارات واضحة إلى أطراف إقليمية ودولية بأنها معنية بوقف التصعيد والعودة إلى طاولة المفاوضات. إلا أن هذه الرسائل الدبلوماسية لم تقترن بأي تنازلات فعلية أو مبادرات سياسية حقيقية، مما يعكس أن إيران تستخدم خطاب التهدئة كوسيلة لكسب الوقت وإعادة ترتيب أوضاعها العسكرية. ويلاحظ المراقبون أن إيران تدير هذه المرحلة بمزيج من الحذر من احتمال تدخل الولايات المتحدة بشكل علني والانفتاح الحذر على الحوار دون تقديم تنازلات جوهرية.
 
في المقابل، تواصل إسرائيل نهجها التصعيدي، مدفوعة بقناعة راسخة لدى قيادتها بأن الفرصة سانحة الآن لتوجيه ضربات استراتيجية تقوّض قدرات إيران النووية والصاروخية. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يصرّح علنًا بأن العمليات ستستمر حتى تحقيق الأهداف المرسومة، بينما تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن استنزاف قدرات إيران بحاجة إلى حملة طويلة الأمد. وهنا تكمن المعضلة: فكلما طالت الحرب زادت المخاطر المترتبة على الداخل الإسرائيلي وعلى الاستقرار الإقليمي.
 
المشهد الميداني يعكس معادلة غير متوازنة لكنها معقدة. فعلى الرغم من تفوق إسرائيل الجوي والتقني، إلا أن إيران أثبتت امتلاكها قدرة على المناورة والرد عبر أدوات متعددة، من الهجمات الصاروخية إلى تنشيط جبهات حلفائها في لبنان وسوريا والعراق واليمن. هذه المرونة الإيرانية أضفت بعدًا جديدًا للصراع، حيث بات من الصعب على إسرائيل تحقيق نصر حاسم في ظل قدرة طهران على تفكيك المواجهة إلى عدة جبهات.
 
تواجه طهران ضغوطا غير مسبوقة على المستويين الداخلي والخارجي. الضربات الإسرائيلية طالت مراكز حساسة وقيادات عسكرية بارزة، ما تسبب في ارتباك نسبي في بنية القيادة الإيرانية. وفي الداخل، تتزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، ما يعيد طرح السؤال حول مدى قدرة النظام الإيراني على الصمود طويلاً في مواجهة حرب استنزاف متعددة الأبعاد. رغم ذلك، تبدو القيادة الإيرانية (حتى الآن) عازمة على استثمار هذه التحديات في تعزيز خطاب المقاومة وتوحيد الجبهة الداخلية.
 
على المستوى الدبلوماسي، فشلت حتى اللحظة جهود التهدئة التي تقودها قوى إقليمية مثل السعودية وقطر وسلطنة عمان، في ظل إصرار الطرفين على التمسك بشروط قصوى. إيران تطالب بضمانات بعدم تدخل الولايات المتحدة عسكريًا، بينما ترفض إسرائيل أي وقف لإطلاق النار لا يترافق مع مكاسب استراتيجية واضحة. وهكذا يبقى أفق الحل السياسي مسدودا، وسط تحذيرات متزايدة من انزلاق المنطقة إلى صراع إقليمي واسع النطاق.
 
من زاوية عسكرية بحتة، أظهرت الضربات الإسرائيلية دقة تكتيكية عالية، لكنها لم تنجح في القضاء على القدرات الإيرانية الأساسية. مراكز الأبحاث الاستراتيجية تؤكد أن طهران نقلت بالفعل جزءا كبيرا من أنشطتها النووية إلى مواقع محصنة تحت الأرض، ما يجعل القضاء عليها مسألة معقدة تتجاوز حدود الضربات الجوية التقليدية. هذه الحقيقة تعزز من قناعة بعض دوائر صنع القرار في تل أبيب بأن الحل العسكري وحده لن يحقق الأهداف المرجوة.
 
في المقابل، أظهرت إيران قدرتها على استيعاب الضربة الأولى والرد بطرق غير تقليدية، سواء عبر الهجمات السيبرانية أو عبر وكلائها الإقليميين. هذه الاستراتيجية الهجينة جعلت إسرائيل أمام تحديات مستجدة، إذ لم يعد كافيًا الاعتماد على التفوق الجوي أو الاستخباراتي، بل باتت المواجهة تتطلب إدارة متعددة المستويات تشمل الردع، والاحتواء، والتعامل مع تبعات اقتصادية وأمنية متنامية.
 
تتفق معظم مراكز الدراسات على أن استمرار القتال بهذا النسق ينذر بإطالة أمد المواجهة دون أفق سياسي واضح، ما قد يؤدي إلى إنهاك الأطراف المعنية واستنزاف مواردها. إسرائيل رغم إنجازاتها العسكرية تواجه ضغوطا متزايدة من المجتمع الدولي ومن الداخل، بينما تخاطر إيران بفقدان ما تبقى من "مظلة دبلوماسية" قد تساعدها في احتواء التداعيات.
 
الولايات المتحدة تجد نفسها في موقف دقيق، حيث تحاول موازنة دعمها التقليدي لإسرائيل مع الحرص على عدم الانجرار إلى صراع مباشر قد يضر بمصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وفي هذا السياق، تلعب واشنطن دورا غير مباشر في إدارة الأزمة عبر قنوات خلفية مع كل من طهران وتل أبيب، لكنها حتى الآن لم تنجح في بلورة مبادرة توقف الانزلاق نحو الهاوية.