بقلم: وائل لطف الله – رئيس تحرير جريدة كاريزما
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
“٤٠ يوم”: بين عدسة تتقن التفاصيل ونغمةتُلامس الوجدان ؛
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
فيلم “٤٠ يوم” بين الهجرة والمصير: لنستعد  للسباق نحو الأوسكار؟
في قلب ولاية كاليفورنيا، وعلى مسافة قريبة من الحدودالمكسيكية، عُرض الفيلم المصري المستقل “٤٠ يوم” لاول مرة  على شاشات السينما الأمريكية يوم ٣٠ مايو ٢٠٢٥ فى مدينة اورانج كاونتي، وأيضاً يوم ٦ يونيو ٢٠٢٥ بلوس انجلوس، 

في خطوة وُصفت بالجريئة والمختلفة في مشهدالسينما المستقلة للمهاجرين.

الفيلم، الذي حمل توقيع المخرج المصري الأمريكي بيترتكلا، الذي تولّى أيضًا كتابة السيناريو والحوار، 

 يستند الفيلم إلى فكرة وقصة واقعية كتبتها البطلة والاعلاميه ميرا  فيكتور، مستلهمة من تجارب حقيقية لمهاجرين خاضوا  رحلة محفوفة بالمخاطر.
الفيلم يطرح واحدة من أكثر القضايا المعاصرةإلحاحاً وإنسانية: الهجرة غير الشرعية.

ومع ذلك، تبقى الموسيقى التصويرية بطل مهم تخلق حاله من الشجن والخصوصية بطريقة رائعة واحترافيةللموسيقار ريمون صقر، واداء مميز وإحترافى لأفرام معوض، وحضور قوى وإحساس عالى للدكتورً الفنان حسام  داغر، من أبرز العناصر التي منحت الفيلم هويتها الوجدانية  والمرئية. 

كما يُسجَّل لميرا فيكتور، بطلة العمل،حضورها المتزن والواعي في أول تجربة تمثيلية لها، حيثقدّمت شخصية تحمل كثيرًا من التحديات النفسيةوالمعنوية، واستطاعت تجسيدها بصدق وهدوء، تاركة أثرًاوجدانيًا ملموسًا لدى المشاهدين.

 فإن العمل اكتسب بعدًا واقعيًا إضافيًا بفضل ظهور عددمن الشخصيات العامة في مواقعهم الحقيقية، مما منحالقصة مصداقية استثنائية، 

فقد شارك رجل الأعمال الاستاذ / رافت  صليب، رئيس الاتحاد العام للمصريين في الخارجبأمريكا، ونائبه المهندس هشام ستيتة، والمستشارةالقانونية البارزة جيهان توماس، في الفيلم كلٌّ بحسب ادوارة  الرسمية، وهو ما أضفى على بعض المشاهد بعدا توثيقها  ورسالة رمزية قوية عن التفاعل الحقيقي بين مؤسسات  الجاليات المصرية في أمريكا والواقع الاجتماعى للجاليات . 

لقد شكّل حضورهم نموذجًا حيًّا للأدوار  التى تمارس  فعليًا في أرض الواقع، ما منح العمل طابعًا شبه تسجيلى  يعكس ما يحدث فعليًا داخل المجتمع  الامريكى للمهاجر .

وتتجلّى أهمية هذا الحضور في أن 
تدخل المؤسسات المجتمعية ، مثل الاتحاد العام للمصريين في الخارج فى امريكا .  يضيف لمسات غير رسمية تفتح أبواب الحوار  في حل القضايا بعيدًا عن التصعيد وبصوره وديه،

بعكس المؤسسات الرسمية التي قد يؤدي تدخلها المباشرإلى تعقيد المواقف وتحويلها إلى أزمات سياسية. وهنا تتجلى قوة السينما كأداة توثيق مجتمعي،تُجسّد الواقع وتُخلّد اللحظات والتحوّلات التي يعيشهاالإنسان، وتسلط الضوء على أدوار محورية قد لا ترى بالعين  المجردة في الحياة اليومية.

من الحوار إلى الحدث: حبكة ذكية تربط بينالسرد والدراما
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖.
لفتتني الحبكة الدرامية الدقيقة في مشهد المستشارة جيهان  توماس وهي تسرد لمريم ما جرى بينها وبين زوجها نجيب . لم يكن السرد مجرد حوار تقليدي، بل أداة ذكيةلنقلنا بصريًا ودراميًا إلى قلب الحدث، حيث استخدمالمخرج الانتقال السلس من حديث جيهان إلى مشاهد توثّقما ترويه، مما عزز الإيقاع البصري والدرامي في آنٍ واحد.

ما أعجبني أيضًا هو البناء الذكي للحوار، حيث جاء السردبأسلوب سؤال وجواب، فتحَ أمام المتلقي فرصة لاكتشاف القصه  تدريجيًا. فبينما كانت جيهان تجيب، انتقل بنا التصوير  إلى مكان التحقيق، حيث نجيب في الموقع الرسمى . 

، ليبدأ هو الآخر بالإجابة بشكل موازٍ، وكأننا تحقيق مزدوج، كلٌّ يروي من زاويته، ما أضفى على الموقف توترًا مشوّقًا وواقعية محكمة.

هذا الدمج بين الحوارات والسرد البصري أعطى المشهدثراءً دراميًا، وساهم في كشف أبعاد الشخصية دون الحاجةإلى إقحام مشاهد استعراضية أو مونولوجات مطوّلة، وهوأحد العناصر التي تُحسب لسيناريو الفيلم في كيفية إدارةانتقالاته بسلاسة ومهارة.

جاء أداء المستشارة جيهان توماس طبيعيًا إلى حدٍ كبير،يعكس شخصيتها الحقيقية خارج الكاميرا، حيث اتسم التلقائيه  والصدق، مما أضفى على المشاهد التي شاركت فيها  واقعية ملموسة وتعبيرًا صادقًا عن الموقف.

وبناءً على معرفتي الشخصية والمهنية برجل الأعمال السيدرأفت صليب، رئيس الاتحاد العام للمصريين في الخارج فى امريكا ، ونائبه المهندس هشام ستيتة، أعتقد أن منحهما خطوطا  عريضة فقط دون نص مكتوب للحفظ كان كفيلا بجعل  أدائهما أكثر تلقائية وأقرب إلى طبيعتهما الحقيقية. 

قد يكون ذلك لأنني أعرفهما عن قرب، وتمنّيت أن أراهماعلى الشاشة كما أعرفهما في الواقع، ببساطتهماوحضورهما الواقعي، لا من خلال أداء يبدو مقيدًا بنص جامد . 

. وربما من لا يعرفهما لن يشعر بهذا الفارق، لكن بالنسبه  لي، كان من الممكن أن يمنح هذا الخيار للفيلم بعدا اكثر  صدقًا وواقعية

ففي الواقع، يتمتع كل من السيد رأفت صليب والمهندس هشام  ستيتة بشخصيات ثرية بالمشاعر، ومعدن اصيل يعكس  “جدعنة ولاد البلد” وحرارة الحديث التي تميز أبناءالجالية المصرية في الخارج. لكن يبدو أن النص المكتوب قدقيّد إلى حد كبير هذا الزخم الإنساني والصدق العفوي فى تفاعلهم ، وحدَّ من ظهور مشاعرهم الفيّاضة التي يعرفها من تعامل  معهم عن قرب.

الصورة والتفاصيل والموسيقى:ابطال صامتون  في “٤٠ يوم”
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
في “٤٠ يوم”، لا تقتصر البطولة على الشخصيات وحدها،بل تمتد إلى عدسة الكاميرا، ووقع الموسيقى، ولمسات التفاصيل  الدقيقة التي صنعت عالم الفيلم. فقد أظهرالمخرج بيتر تكلا نضجًا بصريًا لافتًا، عبر مشاهد خارجيةصُوِّرت بدقة عالية، واستُخدمت فيها تقنيات التصويرالجوي (الدرون) لتمنح العمل أفقًا مفتوحًا وتُشرك الطبيعةنفسها في رواية الألم.

التفاصيل الصغيرة، من ملامح الوجوه، إلى حركةالأجساد، والاهتمام بالظلال والملمس البصري، أضافتعمقًا إنسانيًا للمشاهد، وساعدت الجمهور على التفاعل بصدق  مع التجربة. الكاميرا هنا لا تروي فقط، بل تشهدوتتألم وتنتظر.

يبرع فيلم “٤٠ يوم” في توظيف التفاصيل الصغيرةكعناصر رمزية مُحمّلة بالدلالة، تُسهم في تعميق المعنىوتعزيز الأثر البصري والدرامي. أحد أبرز هذه التفاصيل  مشهد الاستغناء عن شنطة “مريم”، تلك الحقيبة التى كانت  تحمل بين طياتها بقايا الذكريات والأمل، لكن تركت ملقاه  على الأرض، في لقطة مؤثرة ترمز إلى التخلى القصرى  عن الماضي تحت وطأة الظروف القاسية.

في مشهد آخر ذي دلالة رمزية، يلتقي “نجيب” و”أيمن” عند مفترق طرق، حيث يسلك كلٌّ منهما طريقًا مختلفًا عنالآخر. يُجسَّد هذا الانفصال في لقطة بصرية قوية، يظهرفيها كلٌّ منهما يسير في اتجاهٍ معاكس، وكأن الصورةتقول: “اختلاف المصير يبدأ من هنا”.

أما سلسلة “مريم” التي أهداها لها “نجيب”، فليست مجردإكسسوار، بل خيط درامي متصل يربط بين الحنين والحب والخذلان ، وتعود السلسلة للظهور في لحظات مفصليةلتُذكّرنا بما كان وما لم يكن.

ويُحسب للفيلم استخدامه الذكي للظواهر الطبيعية، مثل غياب  الشمس أو اشتداد الرياح، لتُصبح خلفية تعبيرية لمايجري داخليًا في الشخصيات. فحين تتلبّد السماء، كانها تواسى  أو تُنذر، وتتحول الطبيعة إلى مرآة للمشاعر، فيمشاهد تجمع بين الحس البصري والحمولة العاطفية.

أما الموسيقى التصويرية، بتوقيع الموسيقار ريمون صقر،فكانت بمثابة خيط وجداني رفيع، لا يعلو على الصورة، بل يحتضنها . موسيقى لا تفرض عاطفتها بالقوة، بل تتسلل إلى القلب   برفق، وتُعزّز من الإحساس بالوحدة، الخوف،والتوق إلى الخلاص، ناهيك عن جمال المعاني والالحان  والأغنيتين بداخل الفيلم، بالعربية والإنجليزية،واللتين اضافت  على الفيلم بُعدًا شعريًا وعاطفيًا خاصًا.

وهنا يكمن السر الحقيقي في جودة التجربة:
لم أشعر بالملل لحظة واحدة رغم أن مدة الفيلم تقترب منالساعتين، بل إن التناسق البصري والصوتي جعلني أعودلمشاهدته مرة أخرى في نفس اليوم، وبكل شغف وبدونأدنى ملل.
وهذا بحد ذاته شهادة على قوة عناصر الإبهار التي تجعلمن “٤٠ يوم” فيلمًا يستحق المشاهدة أكثر من مرة.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يملك هذا الفيلم فرصة حقيقية لعبور أبواب الأوسكار ؟
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
سينما من قلب الهجرة: حكاية إنسانية بوجه مصري،يستوفي “٤٠ يوم” كثيرًا من السمات الجوهرية التي تميزأفلام الأوسكار:
🔹 قصة إنسانية عميقة: يقدم الفيلم رحلة محفوفةبالمخاطر لمجموعة من المهاجرين من جنسيات مختلفة،يتسللون عبر حدود أمريكا الجنوبية، بحثًا عن مستقبل افضل . يبرز الصراع الإنساني في أقسى صوره: الجوع،الخوف، الوحدة، والانهيار النفسي، في مقابل حلم يبدومستحيلًا.

🔹 طرح اجتماعي عالمي: يتناول العمل قضية الهجرة غيرالشرعية من منظور إنساني شامل، وليس فقط من زاويةمصرية أو عربية. هو فيلم عن الإنسان أولًا، وعن الحلمالضائع والحدود الفاصلة بين الحياة واللاعودة.

🔹 تنوع دولي في الطاقم: ضم الفيلم ممثلين من مصر،الهند، باكستان، الأردن، كوريا، الصين، والولايات المتحدة،ما يعزز من عالمية العمل وقابليته للوصول إلى منصاتالمهرجانات الكبرى.

🔹 إخراج ناضج: مقارنة بأعماله السابقة، أظهر الدكتوربيتر تكلا تطورًا لافتًا في الرؤية الإخراجية، خاصة فيتوظيف المشاهد الخارجية والتصوير بالدرون. مشاهدمبهره حرفياً، رغم بعض الملاحظات، كشفت عن حس بصرييطمح للتجديد، وتصوير متميز ومعبر ومبدع.

في الطريق إلى الأوسكار: ماذا ينقص الفيلم ؟
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
للوصول إلى بوابة الأوسكار، يجب أن يمر الفيلم بعدةمراحل احترافية:
1. مهرجانات دولية كبرى: مثل Toronto، Sundance،أو Venice، وهي منصات تصنع الزخم المطلوب لأي حملةأوسكار ناجحة.

2. حملة إعلامية مدروسة: تعتمد على تسويق الفيلمكقضية إنسانية عالمية، لا كإنتاج مستقل محلي.

3. تحسين بعض العناصر الفنية في النسخة النهائية (إذاتم ذلك عبر إعادة المونتاج أو توسيع بعض المشاهد) بمايتوافق مع المعايير السينمائية العالمية.

بين الثناء والنقد: مكاشفة إبداعية
رغم إشادات عدة نالها الفيلم في عرضه الأول، فإن القراءةالنقدية الواعية من وجهة نظرى تضع بعض الملاحظاتالبنّاءة في الواجهة:
🔻 تطور درامي غير مكتمل في بناء بعض الشخصيات: لميمنح السيناريو مساحة كافية للتعرّف على دوافع بعضالشخصيات أو خلفياتها النفسية والاجتماعية، مماأضعف عمق الرحلة الإنسانية وأفقد بعض المواقف قوتهاالعاطفية.

🔻 تفاصيل واقعية كان يمكن تعزيزها: مثلًا، مشهد عبورالنهر لم يُجسّد الخطر بشكل كافٍ، ولم يوصل الإحساسالحقيقي بالتهديد الذي كان يجب أن يسود للمارين به.

🔻 تفاصيل شكلية أثّرت على المصداقية فى بعض المشاهد: من بين ما لفت الانتباه ظهور طلاء الأظافر بشكل جيد (المانيكير والباديكير) على يد امرأة فقدت ابنها وتقومبدفنه، في مشهد يفترض فيه التعب، الانهيار، والاتّساخ، ماأضعف من واقعيته. كما ظهرت بعض الشخصيات فيلقطات محددة بمظهرٍ يحمل مسحة من الترف لا تتماشىمع الحالة المفترضة لأشخاص تائهين في الصحراء وبين يد عصابات وقطاع طرق.

🔻 غياب ملموس لعلامات العذاب الجسدي والانفعالي فى بعض المشاهد: مثل العرق الظاهر بشكل واضح، الجهدالبادي على الوجوه، أو الدموع الحقيقية في مشاهد الصراع النفسي، وهي عناصر كان من شأنها أن تعمّقالشعور بالمأساة وتقرّب الجمهور من التجربة المؤلمة التييمر بها الأبطال.

فى الختام : 
➖➖➖➖➖
“٤٠ يوم” ليس مجرد فيلم عن الهجرة، بل هو مرآة لوجعإنساني متكرّر في زمن العولمة والاضطرابات. هو شهادةإبداعية لمهاجرين قرروا أن يحكوا حكاياتهم بعدسة السينما، من قلب أمريكا، وبنَفَس مصري لم يُنسِه الغربةملامح الوطن.

إذا ما استثمر صناعه جيدًا في حملة مهرجانات احترافية،ونجحوا في تطوير بعض التفاصيل الفنية والنصية،فالفيلم يملك بلا شك عناصر تؤهله ليكون منافسً جديره لهذه  الفئات المستقلة أو الإنسانية في الأوسكار.

ويبقى الأمل أن نشاهد يومًا ما، في حفل الأوسكار، فيلمًايحمل عنوانًا عربيًا.. ووجوهًا هجرت وطنها جسدًا، لكنهاظلت تحمل روحه في كل لقطة.

أتقدّم بخالص التقدير والامتنان، وبأسمى آيات التهنئة،إلى جميع أفراد فريق العمل على هذا الإنجاز الفني الجادوالممتع، الذي يجسّد روح الإبداع والالتزام، ويعكس صورةمشرفة للفن الهادف

. كما لا يفوتني أن أوجّه شكري العميق لشركات  الإنتاج الداعمة، التي أسهمت بدورها في خروج هذا  العمل بهذا المستوى الرفيع الذي يليق بالجمهور ويواكب  تطلعات السينما العالمية.

ويكفينا فخرًا أن يحمل هذا العمل توقيع مبدعين من أصول مصريه ، وأن يجمع بين فنانين من مصر وجنسيات متعددة،ضمن منظومة من المواهب والكفاءات العالية، التي تؤكد ان الابداع  الحقيقي لا يعرف حدودًا عندما تتوفر الرؤيةوالإرادة الصادقة

٤٠ يوم”: فيلم يتنفس واقع المهاجرين بصُورٍ لا تُنسى انغام   لا تُخطئ القلب . 

بقلم الاستاذ / وائل لطف الله 
مؤسس ورئيس تحرير جريده كاريزما التى تصدر من كاليفورنيا .