أحمد الخميسي 
لم تكن طفولتي مبهجة او سعيدة فقد عشنا وكنا تسعة افراد على معاش جدي الضئيل. ولم  تهبني طفولتي أي شيء بينما غرست فيها الكثير من أحلامي. خلال  ذلك كانت البهجة الوحيدة في  سنواتي المبكرة هي الكتب، فقط الكتب التي فتحت عيني عليها في مكتبه جدي أولا،  ثم مكتبه والدي في ما بعد.
 
وحدها  الكتب هي التي  أفسحت لي مجالا كبيرا للفرح والخيال بعيدا عن واقع  المعيشة الصعبة. 
 
في الثانية عشرة من عمري كنا نسكن في شارع مصر والسودان، وكان في صالة بيتنا صوان ممتليء بالكتب، معظمها روايات روسية! فرغت منها خلال عدة شهور، ثم  لجأت إلي الرصيف، إلى "عم حجازي" الذي كان يعرض الكتب على سور فيلا مهجورة بالقرب منا، ويقف بجوار السور أمام لوح رسم ممسكا بفرشاة يرسم وجوه المطربين والنجوم ليبيعها، وعقدت معه اتفاقا أن أعطيه قرش صاغ كل يوم مقابل أن أقرأ قدر ما أستطيع من دون أن آخذ كتابا لي أو معي،  وكنت أخرج من المدرسة وأتجه إليه بحقيبتي وأجلس على الرصيف وأظل أقرأ حتى تعتم الدنيا فأصعد إلى بيتنا.
 
طالعت عنده مغامرات اللص الشريف" آرسين لوبين" ، وروايات يوسف السباعي، و "ماجدولين" المنفلوطي، وكل ما هو مطبوع، وفرغت من قراءة  كل  كتب السور  في ثلاثة أشهر وكلفني ذلك نحو جنيه واحد فقط.
 
قرأت حتى وقعت بالمصادفة على رواية ضمن سلسلة روايات الهلال بعنوان " ذات الرداء الأبيض" تأليف ويلكي كولنز فتغير كل شيء في عقلي وروحي. فقد كانت الرواية تشتمل على كل ما يمكن أن يأسر وجدان شاب صغير ويخرجه من حياته إلى حياة أكبر وأعرض، كانت مزيجا عجيبا سحريا من الرومانسية والدراما العنيفة في إطار بوليسي، وهي أول ما لفت نظري إلى أن هناك شيئاً اسمه الأدب، وأن الكتاب قد ينطوي على قيمة أعمق من الثرثرة ومن وصف سطح الأحداث والبشر.
 
قرأتها وأنا في الثانية عشرة من عمري ولا أنسى أثرها إلى الآن. ثم  هزني كتاب اخر  كان اسمه «أ.ب. تشيخوف»، عن سيد القصة القصيرة أنطون تشيخوف، عن حياته وهمومه ونظرته إلى البشر والحياة. تشيخوف الذي قال: " في الإنسان لا بد أن يكون كل شيء جميلا، روحه وملابسه وأفكاره ".
 
وعندما تعرضت لوعكة صحية مؤخرا هذا الشهر اسعدتني القراءة وأنا راقد معظم الوقت. قرأت رواية مدهشة بكل معنى الكلمة، أتمنى ممن يكتبون أن يجدوها، الرواية هي " شيطانات طفلة خبيثة" للروائي ماريو بارجاس يوسا.
 
عمل مذهل وعذب وعميق بكل معنى الكلمة، ومتاح مجانا على النت. قرأت أيضا رواية بديعة باسم " ساخذك واحملك بعيدا" للكاتب الإيطالي نيكولو  امانيتي، ورغم حجمها الذي يتجاوز الأربعمئة صفحة فإنك تكاد لا تشعر بذلك بفضل السلاسة والقدرة المدهشة على رسم التفاصيل، هذا رغم أن الرواية لا تصب في فكرة عامة؛ لكنها ممتعة. 
 
تلك الكتب أعيادي  اتركها وتتركني ويظل أثرها ساريا مثل ضوء نجمة بعيدة.