بقلم أيمن فايز
فنان تشكيلي وكاتب إِيقونة بيزنطية

لم تكن كنيسةُ القدّيسِ يوسفَ للآباءِ الكومبونيان في ذلك المساءِ الخريفيّ من عام 1989 بحي الزمالك بالقاهرة مجرّدَ مكانٍ يُقامُ فيه قدّاسُ الأربعين عن روحِ الراحلةِ سوزان طه حسين، بل تحوّلت في ذلك المساء إلى مِحرابٍ يُقيمُ فيه القلبُ صلاتَه في حضرةِ الوفاءِ.

لم أشعر أنّني أشارك في طقسٍ جنائزيّ، بل وجدتُ نفسي في لحظةٍ من الصمت العظيم، حيث يتردّد صدًى خافتٌ لاسمٍ لا يزال يسكن الضميرَ العربيّ: اسمُ طه حسين.

كان الحضورُ صامتًا، كأنَّه يصغي إلى ما لا يُقال، وكانت المقاعدُ الخشبيّة شاهدةً على ذكرى لا تذبل، وعلى امرأةٍ تجسَّد فيها طيفُ الراحل، فنطقتْ بحضورِه صامتةً، وأبقتْ لهيبَ حبّه حيًّا، لا يُطفئه الزمن.

كان مسلسلُ «الأيام» قد مرّ عليه عقدٌ كاملٌ منذ عُرِض لأوّل مرّة، لكنَّ أثره ظلَّ عالقًا في الوجدان، طريًّا كأنّه يُبثّ كلّ مساء.

أحمد زكي، بعبقريّته الفريدة، لم يُمثّل طه حسين، بل لبِسَ روحه، ومشى في خطاه، حتى حسبناه عميدَ الأدب ذاته.

كان المشهدُ مكتملَ الأركان: محمود المليجي، حمدي غيث، أمينة رزق، صفية العمري، ويحيى شاهين.. كوكبةٌ من نجومٍ نسجوا من الحكاية دربًا إلى قلوبنا.
وكان صوتُ علي الحجار بشجنه الرهيف، وكلمات سيد حجاب التي تنبض بحكمة الزمان، وألحانُ عمار الشريعي ذلك الغواص الفذّ في أعماق بحر النغم حيث كان العمى ليس قيدًا، بل بوابةً سحرية تفتح له عوالم لا تبصرها العيون، بل تحسّها الروح. 

فقد تخطّى عمار ظلمة العمى بحسّه السمعي الفذّ، فكان كأنّه يسبح في محيطات لا متناهية من الإبداع، يلتقط من أعماق الحياة أنغامًا لا تُرى لكنها تُسمع وتُشعر، وكأنّه ينسج عبر الموسيقى ذاتها قصة طه حسين وسوزان: قصة رجل لم ترَه عيناه، لكنه أبصر الحياة بنور داخلي لا ينطفئ، وقصة امرأة رأت بعينيها الجسد، لكنها لم ترَ عماه عائقًا، بل نورًا ينبعث من روحٍ أعمق.

وهكذا، تلاقت الموسيقى مع قصة الحب التي تحدّت كل المحظورات، فكانت الألحان ترتيلةً تُتلى على مذبح القلب، تعبّر عن حوار الأرواح، عن نورٍ ينبثق من العتمة، وعن حبٍّ لا يحتاج إلى بصيرة العين ليُبصره، بل إلى بصيرة القلب ليفهمه. 

كانت موسيقى عمار الشريعي ترجمةً صامتةً لصوت الحياة ذاته، كما كانت حياة طه حسين وسوزان ترجمةً حيةً لقصيدةٍ تفيض إيمانًا بأن النور يولد من رحم الظلمة، وأنّ الحب الحقيقي هو ذاك الذي لا يُقاس بالبصر ولا يُحدّه زمن.

لم يكن ذاك العملُ مجرّد دراما، بل كان مدرسةً في التكوين النفسيّ والروحيّ، صاغت وعينا، وربّت فينا ذلك الإيمان بأنّ الإنسان يستطيع أن يهزم العتمة ما دام في القلب قبسٌ من نور، وأنّ الكتابة لا تحتاج عينًا تُبصر، بل روحًا تُوقن.

في ذلك الزمان، كان التلفاز صندوقًا صغيرًا في زاوية الغرفة، لا يعلو على صوت الكتاب، ولا يجرؤ على سلبنا لحظاتِ التأمّل، ولا ينتزعنا من دفءِ الحكاياتِ الشفويّة التي كانت تدور بين الأهل في المساءات الطويلة.

أمّا اليوم، فنحن نعيش عصرَ الأقمار الفضائية، حيث تُبثُّ العواطف عبر إشاراتٍ باردة، وتُسكب المشاعر في قوالبَ إلكترونيّة لا تعرف معنى التضحية، ولا وهج اللقاء.

غير أنّ سيرةَ طه حسين وسوزان لم تكن يومًا ماضِيًا يُستعاد، بل نبوءةً عن الحُبِّ حين يَصدُق، وعن الإنسانِ حين يُحبُّ بما يتجاوز الشكلَ والمذهبَ واللغة.
سوزان بريسو Suzanne Bresseau، الفتاةُ الفرنسيّةُ الكاثوليكيّة، لم تكن رفيقةً عابرةً في مسيرة العميد، بل كانت الشعلةَ التي أضاءت ظلمتَه، والجسرَ الذي ربط بين ضفّتَي الاختلاف، فإذا بالمستحيل يُصبح مُمكنًا، وإذا بالمسافاتِ تتلاشى أمام حرارة القلب.

كانت البداية في بيتهم الأول، المتفرّع من شارع البارون إمبان بمصر الجديدة، قبل أن ينتقلوا معًا إلى حي الزمالك، حيث استقرّوا في ملاذهم الأخير، مسطرين قصة حبٍّ خالد لا يطالها الزمان.

كان هو مصريًّا فقيرًا كفيفًا، وكانت هي فرنسيّةً أرستقراطيّة، كان يرى النور بعينيها، يستقي منه ضياءً لا يخبو، بينما كانت هي تبصر الحياة بعين بصيرته، ويجمعهما عالمان متوازيان: دينٌ مختلف، ولسانٌ مغاير، وخلفيّةٌ لا تتقاطع.

في تلاقي بصره الجسدي مع بصيرتها الروحية، تجلّت الحقيقة ببهاءٍ لا يُدركه سوى من عاش معجزة النور في قلب الظلام، فامتزج النورُان، وتوحّد السواد مع الضياء، فصارا معًا كقصيدةٍ تُرتّلها أرواحُ العاشقين في أزمنةٍ تتجاوز الزمان والمكان.

ولكنّ قلبيهما التقيا في منطقةٍ لا تطالها يدُ التفسير، فامتزجا كما يمتزجُ الحلمُ بالرّجاء، وصارا على مدى ستةٍ وخمسين عامًا مثالًا لما يكون عليه الحبُّ حين يُزهر في أرضٍ صلبة.

كيف؟
لأنّهما لم يكتفيا بالنظر إلى بعضهما بعينِ الجسد.
هو لم يُبصر لونَ عينيها، لكنّه رأى فيها فجرًا جديدًا.
وهي لم ترَ عماه قيدًا، بل شاهدتْ فيه روحًا تحفر في الصخر كي ترى العالم.
كان كلٌّ منهما مرآةَ الآخر، وسندَه، وصوتَه في الزحام.
" "كَانَتْ يَدي في يَدِهِ مُتشابكَتَين كما كَانَتا في بَدَايةِ رِحلَتِنَا.."
هكذا كتبتْ سوزان في مذكّراتها «مَعَك AVEC TOI»، كتابٌ تقطرُ منه الكلماتُ كما الدموع، وفيه استحضرتْ سيرةَ حبيبٍ لم يُفارِقْها، حتّى وهي تضع قبلةً أخيرة على جبينه، وجدتْ وجهَه نقيًّا كما عرفته أوّل مرّة. 
ذاك الحبُّ لم يكن عاطفةً فحسب، بل مشروعًا إنسانيًّا وثقافيًّا، تجاوز حدودَ المألوف. كان تمرُّدًا على أعرافٍ ترى في الاختلافِ عائقًا لا إمكانيّة.

تمرُّدٌ حوّل:
• العمى إلى رؤيةٍ داخليّةٍ تُبصر ما وراء الأشياء،
• والفقرَ إلى غنى لا يُقاس إلا بعمق الفكر،
• والغربة إلى وطنٍ من العاطفة،
• والمسيحيّة والإسلام إلى حوارِ أرواحٍ يتعالى على السطوح.
لم تكن ثمرةُ هذا الحبّ أنيسًا وأمينةً فقط، بل كانت ثمرةً مكتوبةً، تُورَثُ للأجيال: «معك» كتابُ الوفاء، كتابُ النور.
في زمنٍ صار الحبُّ فيه «تفاعلًا» على وسائلِ التواصل، وارتباطًا هشًّا لا يصمد أمام أوّلِ اختلاف، تظلُّ قصّةُ طه وسوزان جرسًا يرنُّ في أعماقنا:
الحبُّ، حين يكون صادقًا، يُبدِّدُ الظلمات، ويخلق من فُرَقَاءِ الأرواح وطنًا واحدًا.
حبٌّ لا يخشى العوائق، ولا يستأذن الواقع، ولا يُحدّه بصرٌ ولا مسافة.
حبٌّ في جوهره يُضيء.
مات الجسدانِ.. لكنَّ ظلَّيهما ظلّا يُرسمانِ على جدرانِ الزمنِ:
طه الذي سكنَ وجهًا لم يُبصرهُ، وسوزان التي سكنتْ روحًا لا تموت.
كما أضاء طه حسين، وكما أبقته سوزان حيًّا في ذاكرتِها.. وفي ذاكرتِنا جميعًا.