كمال زاخر
الكاتب صبحي موسى
[اشكالية تحرير ثلاثية: الإرادة ـ النص ـ العقل]
جزء ثانٍ
لماذا توقف الكاتب ليحلل دور كل من الشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين؟.
الشيخ على عبد الرازق باعتباره أول من فتح الباب عبر كتابه "الإسلام وأصول الحكم" للدعوة إلى الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، بعد عام من سقوط الخلافة فى تركيا على يد كمال أتاتورك (أبو الأتراك) وتطلع عدد كبير من الملوك العرب لتقلد منصب "الخليفة" وفي مقدمتهم الملك فؤاد "حاكم مصر والسودان"
وبحسب الكاتب يعد طرحه "أول مسمار يُضرب في تفتيت الأرض الصلبة التي يعيش عليها الفكر السلفي والتقليدي ... ذلك بأنه حدد فى كتابه هدفه وانحيازه بشكل لا لبس فيه للفصل بين الأمرين، فقد أصر على القول بأن الحكم أمر له طبيعة خاصة، والدين أمر آخر، ويمكن للمسلمين أن يعيشوا تحت أي شكل من أشكال الحكم، فالخلافة هي شكل من هذه الأشكال، والحكومة الدستورية البرلمانية شكل آخر، والملكيّة التي بدأت منذ زمن معاوية بن أبي سُفيان هي شكل ثالث، وفي كل الأشكال كان ومازال المسلمون موجودون، لم يتغيروا ولم يتبدلوا." ويستطرد الكاتب بعد استعراضه للقضايا والاشكاليات التي طرحها الشيخ علي عبد الرازق فيقول "يمكن القول أن مجمل القضايا التي اقتحمها علي عبد الرازق هي ما دارت حوله كل مجهودات التنوير العربي فيما بعد، وهي المنطقة التي سيظل التيار التنويري يدور في فلكها، ربما لأننا لم نستطع أن نتجاوز تلك المرحلة من تحرير النص الديني من يد الكهنة والبطارقة".
ويَرُد الكاتب صدام د. طه حسين فى معركة التنوير إلى كتابين أولهما رسالته لنيل درجة الدكتوراه عن الشاعر الفيلسوف المعتزلي الشهير إبي العلاء المعري وعنوانها "ذكرى أبي العلاء" عام 1914، وثانيهما كتابه "في الشعر الجاهلي" 1926، والذي أعلن فيه أنه سيستخدم منهج الشك الديكارتي للوصول إلى اليقين، ويحسب للدكتور طه حسين أنه "بذر بذرة في إعمال العقل بمنهج علمي في التعامل مع كل ما نواجهه، وليس التصديق والقبول والتسليم والرضا، فالعقلية الآمنة المطمئنة لا يمكنها أن تفارق موضعها، ومن ثم فلا أمل منها في نهوض ولا تجاوز حضاري"
وينتهى الكاتب إلى القول "إن أبرز جوانب مأزق التنوير العربي ـ بحسب د.جلال يحيى فب كتابه "العالم العربي الحديث ـ هى الفقر وعلاقته بالمسألة الدينية، فقد ربط بين المجتمعات الفقيرة وفكرة الجهاد الإسلامي، كما ربط بين المجتمعات الغنية والليبرالية، وهو أمر إلى حد بعيد صحيح، فكلما ازداد الفقر لجأت الناس إلى الأفكار الرجعية والتقليدية في السيطرة على مخاوفها، ومنح نفسها الدوافع الموروثة للحفاظ على الحياة، أما فى حالة الثراء فهم يندفعون نحو قنوات جديدة من الفكر والمغامرة والتجريب، مما يزيد وعيهم وقدراتهم على مواجهة المخاوف بآليات تتوافق مع العقل والمنطق لا الشعوذة والخرافات."
يطرح الكاتب اشكالية التنوير فى ظل السلطة وظهور الاشتراكية العربية كعامل له تأثيره المهم على مسيرة التنوير العربي، والتي وقعت في تناقض المزج بين الفكر التقدمي والتحرري وربطها بالمسألة الدينية، "مما خلق مأزقاً جديداً حيث تم استيراد الفكر التقدمي من المنابع الشيوعية وتقييده بالفكر الإسلامي أو الديني بشكل عام".
ويبين الكاتب كيف غيَّر المفكرون والسياسيون والمناضلون العرب قناعاتهم، بفعل تغلغل عنصر الدين في الفكرة القومية، وينقل الكاتب عن عبد الرحمن البزاز ـ وهو حقوقي وسياسي عراقي شغل منصب رئيس الوزراء فى فترة حكم الرئيسين عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف ـ ينقل عنه ما ذكره في كتابه "القومية العربية تحريرها وتعريفها" قوله (والحق أن القومية غير الدين، ولكنها ليست بالضرورة ضد الدين، وأكثر من ذلك إن "القومية العربية" و "الديانة الإسلامية" خاصة يلتقيان في مسائل عديدة جداً، ويسيران جنباً إلى جنب أشواطاً بعيدة، وباستطاعة المرء أن يوفق بين عقيدته الدينية وشعوره القومي.)
ويعقب الكاتب: ومن هنا لم تعد القومية التي نشأت على أساس فصل الدين عن الدولة ترى أن هذا الفصل إلزامي أو حتمي، بل أنه من الممكن إبداء مرونة في ذلك، ليس على أساس أن الدولة تكفل حرية الاعتقاد لجميع المواطنين، ولكن على أساس أنه من الممكن أن توجد قوانين تتسم بلون ديني.
ووصل الأمر بالبزاز إلى ما يشبه الدمج بين القومية والإسلام قائلاً (وكنت أعتقد ولم أزل بأن القومية العربية الخالية من الفكرة الإسلامية هي بمثابة الجسم الخالي من الروح، أن الشعور الإسلامي المجرد من الشعور القومي يستحيل إلى أفكار مجردة لا تتصل كثيراً بالحياة العامة التي تحياها كأفراد وجماعات.)
ويرى الكاتب أن جمال عبد الناصر "آمن بكل من الاشتراكية والقومية العربية "، لكنه قام بتعديل الاشنراكية ـ شأن غيره من الاشتراكيين العرب ـ فلم يهمل الدين كما فعل ماركس الذى كان يعتبر الدين نوعاً من التسكين والتخدير يستخدمه الحكام مع شعوبهم، كي يطول أمد بقائهم في الحكم، وأطلق على رؤية عبد الناصر للاشتراكية "الناصرية".
ويشهد الكاتب للفترة الناصرية "أن ما فعلته في مصر كان أمراً مشهوداً، فقد سعى بالقوة الثورية إلى تغيير أدوات الانتاج، حيث أمم المصانع والمؤسسات وجعلها ملكية عامة، وصادر مئات الآلاف من الأفدنة وأعاد توزيعها على المزارعين، واهتم بإقامة اقتصاد قوي قائم على التصنيع والتصدير" كما يرى الكاتب.
وقد حرص عبد الناصر على حضور الدين في المشهد وفي هذا يقول الكاتب "انه اهتم بافتتاح المعاهد الدينية وتوسعة دور الأزهر، معتبراً أنه أحد أدوات القوة الناعمة للدولة المصرية، "ويَرُد الكاتب هذا إلى "أنه كان في مواجهة مع أقطاب الفكر الإسلامي الرجعي فى الجزيرة العربية وقتئذ" "فضلاً عن تكونه الخاص كواحد من أبناء الطبقة الوسطى في جنوب مصر"، وقد أعلن الحرب على الشيوعية وعلى الإسلام السياسي، "لكنه لم يرفض الفكر الصوفي ولا الفكر السلفي، وأنشأ إذاعة القرآن الكريم، مثلما أنشأ إذاعة الشرق الأوسط لدعم القوى التحررية في العالم العربي".
ويذكر الكاتب أن عبد الناصر سعى لتنفيذ الحلم الذي تأجل منذ عهد محمد علي وهو إقامة الدولة العربية ، واتخذ أول الخطوات بالاتحاد مع سوريا عام 1958، والتي لم تدم طويلاً، لكن الحلم ظل قائماً في مخيلته. بينما تأكد سقوط الحلم مع نكسة 1967، ويأتى السادات ليعلن انتهاء الجمهورية العربية المتحدة "مكتفياً بمسمى جمهورية مصر العربية". "لكن الفكرة الإسلامية أو الدينية ظلت باقية وقوية، في مقابل ضعف الوعى بقضية التنوير والدفع به في اتجاه علمانية الدولة"، ويرُد الكاتب ذلك إلى تغير وجهة السادات الى المعسكر الغربي وانقضاضه على الرؤية الاشتراكية.
وينتهي الأمر به أن يقتل على يد الجماعات الإسلامية التى خرجت من عباءة الإخوان واطروحات سيد قطب، وبالتوازي تنتصر الثورة الإيرانية ويصل الخميني وتياره المتشدد للحكم، ويدشن وصول الاسلام السياسي للحكم فى المنطقة.
يعود الكاتب بنا إلى تناول مصطلح "العلمانية" كما عرفها الغرب، وكيف تم إحياؤه "بعد معركة الثلاثين عاماً التي دارت بين أنصار الكنيسة الكاثوليكية وانصار مارتن لوثر وثورته البروتستانتية"، والعودة هنا "نتاج مخاض فكري طويل"، ويرصد مسعى لوثر لتحطيم ثلاثة اسوار، كي يصل المجتمع الأوروبي إلى الإصلاح الديني كما تصوره:
ـ تحكم السلطة الدينية بالسلطة الزمنية.
ـ احتكار السلطة الدينية الحق في تأويل وفهم النص الديني.
ـ عصمة البابا من الخطأ.
ينتقل الكاتب بالمصطلح إلى المجتمعات العربية، بعد أن يستعرض التناول اللغوي له، بين انتسابه للعلم، وانتسابه للعالم، ويعود ليستعرض صدام الكنيسة الكاثوليكية مع العلم خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، بين تمسك الكنيسة بحرفية النص الديني، وبين رأي العلم بضرورة تأويل النص. ويورد ابرز هذه الصدامات مع كوبرنيكوس فى طرحه عن دورات الأفلاك السماوية، والذي انتهى إلى ان الإنسان لم يعد مركزاً للكون، ثم جاليليو وتلسكوبه الذى أكد على ما ذهب اليه كوبرنيكوس، عن حركة الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس، ثم اسحق نيوتن باكتشافه قوانين الحركة والجاذبية، وثلاثتهم يرسخون لمبدأ إعمال العقل. فيما عرف اصطلاحاً بالعقلانية، لتحل المناهج العلمية محل الخرافات والاساطير، ومنها يصل الكاتب إلى أن "العلمانية تعني الفصل بين شئون المجتمع المدني وشئون المجتمع الديني".
تحت عنوان "الاحتواء والأسلمة" يعود الكاتب فيؤكد أن الحداثة العربية هي حداثة مستوردة، لم تنتج محلياً "من خلال صراع فكري وثقافي اجتماعي سياسي حولها، لذلك ظلت حبيسة بين جدران الأروقة الأكاديمية، في حين فتحنا المجال العام لهيمنة الدين ورؤاه على المجتمع ككل ، خاصة الطبقة الوسطى، التي تأرجحت بين العمل بالعلم والاعتصام بالدين، خشية التشكك والقلق"، الأمر الذي جعل التيار الإصلاحي يعاني من مأزق قدرته على احتواء ما يثيره السلفيون وجماعات الاسلام السياسي من مزايدات في سعي للحفاظ على بقاء النص الديني في الصدارة، وعدم فقدانهم لمكتسباتهم".
وقد تنبهت التيارات الدينية إلى الوسائط الجديدة ـ فى العالم الافتراضي ـ ومن خلالها سعوا إلى احتواء الفكر الجمعي وأسلمة المصطلحات، ومحاصرة التيار العلماني من خلال اتهامه بأنه ضد الدين، الأمر الذي دفع العديد من التنويريين (المسلمين) لصراع تحرير النص الديني من يد رجال الدين، وليس تحرير العقل العربي من هيمنة الثقافة الدينية التقليدية، ويذكر الكاتب منهم نصر حامد أبو زيد، و محمد اركون، ويقول الكاتب "يمكن القول أن المنهجية العلمية التي تعامل بها نصر حامد أبو زيد في شرح وتحليل وتفكيك القضايا الفكرية الدينية هي ما أزعج التيار الديني بمختلف تشكيلاته، سواء الإصلاحي المعتدل أو السلفي المتشدد".
وعن محمد ركون "الباحث الجزائري" يقول الكاتب "تُعد اشكالية اركون أنه أُتهم من قِبل شيوخ الدين بالهرطقة، واُتهم من قِبل زملائه في الحقل الفكري الغربي بـ "الأصولي"."
يختتم الكاتب طرحه في فصله السادس "بنية التخلف الرجعي" بأن الغرب الذي قام بثورة العقل، قام هو نفسه باحتلال بلاد الشرق وهيمن على مقدراته، مما وضع مفكري التنوير العرب في مأزق شديد، إذ كيف يقنعون شعوبهم بأن الغرب ليس محتلاً لكنه رسول الوعي والمعرفة؟!. فيما كانت التيارات الدينية يطورون خطابهم للحفاظ على مكانتهم وسيطرتهم، "فقد سارعوا بالبحث في اوراق الفارابي والبيروني والمسعودي لجعل التفكير العلمي جزءاً من بنية تراثهم، بما يعني أنه لا حاجة لديهم للأخذ بمناهج الغرب لأنهم لديهم ما يكفيهم في التراث."
وهكذا ـ بحسب الكاتب ـ استطاع التيار الديني والتقليدي الرافض والمعادي للتحديث أن يخلط الأوراق في عقل الجموع التابعة له. وينبه الى معوق آخر يواجه الحداثة والتنوير بامتداد القرنين المنصرمين وهو تحالف الدين والسلطة ويعدد الأمثلة على ذلك.
وينتهي بنا الكاتب إلى دور وموقع المرأة فى مسارات التنوير والمعوقات التي واجهتها. ومطالبتها عبر كتابات عديدة بأن يدافع المسلمون التقدميون عن الديمقراطية ويقاوموا الأصولية استناداً إلى النصوص الدينية التي تثبت أن الإسلام ليس ضد المرأة.
وفي خاتمة الكتاب يوجز الكاتب مأزق التنوير العربي في كونه ظل طيلة الوقت منحة من الحاكم، وجزء منه يتحمله التنويريين انفسهم .