(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)
ينبغي لعِلْم اللّاهوت، ولا سيّما المسيحيّ والكنسيّ، أن يكون تأويلًا متعلّقًا بالرّجاء ودوافعه، وذا فِكْرٍ جادّ وعميق ونقديّ، ويلتزم بالواقع المعاصر، مميّزًا جيّدًا بين "النّقد" و"النّقض"، والسّمِين والغَثّ، والفكر الأصيل العميق وذاك المزيّف السّطحيّ. فكما قال عَالِمُ اللّاهوت "غُوستافو غُوتييرّيز مِيرينو" (1928-2024): «ليس عِلْمُ اللّاهوت هو كِتابة كِتابٍ والفوز بجائزةٍ. فعِلْمُ لاهوتي هو خدمةٌ، وتأويلٌ متعلّق بالرّجاء؛ إنّه متعلّقٌ بالدّوافع الخاصّة بالرّجاء». و«الحديثُ عن الله (عِلْم اللّاهوت) يأتي بعد صمتِ الصّلاة والالتزام [بالعمل]. سيكون عِلْمُ اللّاهوت كلامًا يُثريه الصّمت دائمًا». وبهذا المعنى، قد قال عَالِمُ اللّاهوت الألمانيّ "يوهانّ بابتيست ميتز" أيضًا: «لا تعيش الكنيسةُ "على هامش" أو "فوق" هذا الواقع الاجتماعيّ، وإنّما داخله، كمؤسَّسة اجتماعيّة نقديّة. فكمؤسَّسة، تملك الكنيسةُ في هذا العالم، وأمامه، المهمّة الخاصّة بالتّحرير النّقديّ».
وجديرٌ بالذّكر أنّ "غُوستافو غُوتييرّيز" هو فيلسوفٌ وعالم لاهوت من دولة "بيرو" الواقعة بأمريكا اللّاتينيّة. فقد وُلِد في الـ8 من يونيو/حزيران لعام 1928، في "ليما"، البيرو؛ ورُسِمَ كاهنًا إيبارشيًّا في عام 1959. وأسّس "معهد بارتولومي دي لاس كاساس"، في "ليما" عام 1974. وفي عام 1985، حصل على الدّكتوراة في عِلْم اللّاهوت من كليّة "ليون" (فرنسا). وقد صار راهبًا دومينيكيًّا بفرنسا منذ عام 1998. وقد رحل عن عَالَمنا في الـ22 من أكتوبر/تشرين الأوّل لعام 2024، عن عمرٍ ناهز الـ96 عامًا.
ويُطلَق على غُوستافو غُوتييرّيز لقب "أب" عِلْم لاهوت التّحرير، فهو قد نشر كتابه المعروف "عِلْم لاهوت التّحرير: أبعاد" (1971)، الذي يُعدُّ أشهر أعماله وأكثرها تأثيرًا حول العالم. وفي هذا الكِتاب الشّهير، قدّم مشروعه الثّيولوجيّ على أنّه تفكيرًا نقديًّا للممارسة التّاريخيّة؛ ومن ثمّ فهو عِلم لاهوت مُحرِّر، وعِلم لاهوت متعلّق بالتّحوّل التّحرّريّ لتاريخ البشريّة. وفيه انْتَقَدَ بشدةٍ الإطار السّياسيّ الذي أدّى إلى إدامة الفقر في أمريكا اللّاتينيّة. وعلى كلّ حال، هو أحد رُوَّاد هذا الحركة التي نشأت في أمريكا اللّاتينيّة.
وفي مِضمار الحديث عن "عِلْم لاهوت التّحرير"، تسطع أيضًا شخصيّةُ الشّهيد القدّيس الأسقف الثّائر السّلفادوريّ "أُوسكار أرْنولفو رُوميرو"، الذي وُلِدَ في الـ15 من شهر أغسطس/آب لعام 1917 في "سيوداد باريوس"، بمقاطعة "سان ميغيل" في دولة "السّلفادور" الواقعة بأمريكا اللّاتينيّة. ورُسِمَ كاهنًا في الـ4 من شهر أبريل/نيسان لعام 1942، وأسقفًا في الـ21 من شهر يونيو/حزيران لعام 1970.
وفي الأعوام 1978-1979، شرع في الدّفاع عن حقوق الضّعفاء والفقراء والمظلومين. وراح يندّد في عظاته بانتهاكات حقوق الفلّاحين والعمّال وكهنة إيبارشيّته وكلّ الأشخاص الذين لجؤوا إليه، في سياق العنف والقمع العسكريّ الذي شاهدته البلاد. وبعد عدّة محاولات فاشلة للتخلُّص منه، اُغتِيل في عصر يوم الاثنين الموافق الـ24 من شهر مارس/آذار لعام 1980، في حوالي السّاعة 6:30 مساءً، أثناء احتفاله بالقُدّاس الإلهيّ. وقد أصابته رصاصةٌ أطلقها قَنّاص محترف في قلبه قبل لحظاتٍ من صلاة التّقديس؛ وكان عمره يناهز الـ62 عامًا.
إنّ فِكْرَ "عِلْم لاهوت التّحرير" على غرار أيّ فِكْر، فهو في تحرُّك مستديم. ولكن، مع الأسف، في مِصْر (وربّما في العالم العربيّ)، وحتى بين الإكليروس والدّارسين، ثمّة أفكارٌ قديمة وجامدة بشأنه، ولا يُعرَف عنه إلَّا المعلومات العامّة. ودعنا نتساءل: هل يمكن أن يكون عِلْمُ لاهوت التّحرير نافعًا ومفيدًا لنا أيضًا في مِصْر (وفي العالم العربيّ)، في طريقة فَهْمنا وتعاملنا وتعاطينا مع عِلْمُ اللّاهوت في العموم؟ وسأترك الإجابةَ عن هذا التّساؤل لمقالٍ آخر قادم.





