القمص يوحنا نصيف
    نحتفل يوم الخميس بعيد صعود ربّنا يسوع المسيح بالجسد إلى السموات.. وهو من الأعياد السيِّديَّة الكُبرى، بحسب طقس الكنيسة القبطيّة الأُرثوذُكسيّة..

    هناك نقطان هامّتان يلزم وضعهما في أذهاننا، ونحن نعيش في أجواء صعود ربّنا يسوع:
    النقطة الأولى: أنّ صعود السيِّد المسيح هو يختصّ بناسوته المتّحِد بلاهوته، بمعنى أنّ حركة الصعود كانت للطبيعة الإنسانيّة التي للسيِّد المسيح؛ أمّا الطبيعة الإلهيّة فهي لا تتحرَّك أو تنتقل من مكان لمكان، لأنّنا نعلم بالطبع أنّ السيِّد المسيح يملأ كل مكان بلاهوته، فهو موجود في كلّ مكان، في السماء وعلى الأرض.. كما أكَّد ذلك أيضًا في حديثه مع نيقوديموس: "ليس أحد صعد إلى السماء، إلاّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يو3: 13).. لهذا فإنّ الصعود كان عملاً هامًّا من أجل تمجيد ورفع الطبيعة الإنسانيّة إلى فوق.. مع الوضع في الاعتبار أنّ السيِّد المسيح هو شخص واحد؛ الطبيعة الإلهيّة فيه مُتّحِدة بالطبيعة الإنسانيّة، ولاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا غمضة عين، لا قبل الصعود ولا بعده.. حتّى الآن وإلى الأبد!

    النقطة الثانية: وهي مبنيّة على الأولى.. أنّنا عندما نفهم أنّ الطبيعة الإنسانيّة للسيِّد المسيح هي التي صعدَتْ، وارتَقَت لتكون عن يمين الآب.. فهذا معناه أنّنا باتّحادنا به فإنّنا نرتفع معه لنكون عن يمين الآب أيضًا.

    هنا يلزمنا أن نفهم معنى يمين الآب.. فنحن نعلم أنّ الله روح غير محدود، ليس له يمين ويسار، أعلى وأسفل، أمام وخلف.. ولكن دائمًا الناحية اليمين في لغة الكتاب المقدّس تشير للقوّة والبِرّ والمجد والكرامة.. فصعود السيِّد المسيح وجلوسه عن يمين الآب إشارة إلى أنّه استقرّ، وهو يحمل الطبيعة البشريّة، في قوّة ومجد الله.. وهذا يعني أنّ ثباتنا في المسيح يؤهِّلنا للاستقرار أيضًا عن يمين الآب، أي نحيا في قوّة ومجد أولاد الله!

    من أجل هذا، لا ينبغي أبدًا أن نفكِّر في الصعود مع السيِّد المسيح بالمفهوم الجغرافي؛ بمعنى أنّ السيِّد المسيح انتقل ونقلنا معه من مكان لمكان، وأنّنا عن يمين الآب بمعنى أنّنا الآن فوق الناس ونتطلَّع عليهم من أعلى إلى أسفل.. فهذا التفكير المادِّي الجغرافي خاطئ تمامًا؛ والحقيقة أنّ السيِّد المسيح قد ارتقى بمكانتنا وليس بمكاننا الجغرافي.. وصعودنا معه معناه أن نصير في قوّة ومجد وكرامة أبناء الله!

    الفِكرة الجميلة التي تؤكِّدها لنا الكنيسة دائمًا في كلّ الأعياد السيِّديَّة، أنّه لا يكفي أن نحتفل بهذه الأعياد كأحداث خارجة عنّا، نشاهدها من بعيد، ونفرح بذِكراها.. بل مع احتفالنا بميلاد المسيح مثلاً، يلزمنا أنّ نولَد معه.. وفي قيامته نقوم معه.. وفي صعوده نصعد معه.. وهكذا.. ولا تكتفي الكنيسة بهذا بل وتشرح لنا كيف نولَد؟ وكيف نقوم؟ وكيف نصعَد؟! ونفهم كلّ هذا من خلال القراءات المُختارة بعناية من كنوز الكلمة الإلهيّة..

    على أساس هذه الفكرة، يظهر السؤال الهام:
  * كيف نصعد مع المسيح؟!

    في الرسالة إلى العبرانيين يقول معلِّمنا بولس الرسول: "دخل يسوع كسابق لأجلنا..." (عب6: 20)، ويقصد دخوله إلى الأقداس السماويّة بالصعود.. بمعنى أنّ الرب يسوع وهو رأس الكنيسة قد سبقنا بالدخول إلى السماء، وبذلك فتح الطريق لأجلنا، كي نصعَد –نحن أعضاء جسده- وندخل وراءه إلى المجد.. فكيف نجد الطريق الصاعِد الذي يؤدِّي بنا إلى هذه الأمجاد السمائيّة؟!

    في أول قراءة تختارها لنا الكنيسة بعد عيد الصعود مباشرةً، في مساء الخميس (إنجيل عشية الجمعة) تكشف لنا، من كلمات السيِّد المسيح نفسه، كيف نصعد وراءه؟ وما هي ملامح الطريق الصاعِد؟! إذ يقول السيِّد: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا" (مر8: 34-35).. وهنا الكنيسة توضِّح لنا ما يلي:

   1- الطريق الطبيعي لخلاصنا هو نسير وراء السيِّد المسيح، أو بمعنى آخَر نصعد وراءه.

   2- الله لا يجبر أحدًا على تبعيّته، بل هناك فقط دعوة عظيمة لا تُقَدَّر بثمن، والأمر متروك لحرّيّة الإنسان واستعداده للتضحية بالأمور الأرضيّة، وتبعيّة المسيح من خلال طلب الملكوت.

   3- إنكار الذّات أساسي قبل الصعود، أي أنّ الطريق الصاعِد يبدأ بالاتضاع والنزول إلى أسفل، والانحناء عِند الأقدام، والتنازُل عن كرامات الأرض.

   4- انكار الذات واتضاع القلب يؤهِّلان الإنسان للامتلاء من نعمة الله، وبقوّة النعمة ومعونتها يتمكَّن الإنسان من حمل الصليب، وتبعيّة المسيح في طريق الصعود.

   5- حَمْل الصليب هو وسيلة جميلة وأساسيّة للارتفاع بالإنسان وراء السيِّد المسيح في طريق الخلاص الصاعِد.. أمّا مَن يهرب من الصليب فسوف يتوه ويَضِلّ عن طريق الصعود.

   6- الذي لا يريد أن ينكر ذاته بل يُشفِق عليها ويدلّلها ويطلب لها الكرامة والراحة، هو يتّخِذ طريقًا آخَر غير طريق الصعود؛ وهو لن يطيق حمل الصليب، وبالتالي لن يتمكَّن من الارتفاع مع المسيح!

   7- طريق الخلاص هو طريق صاعِد؛ والذي يُهلِك ويبذل نفسه من أجل المسيح، فسوف يجدها محفوظة فيه مرتفعة معه، ويستلمها منه مُكَلّلَة بالمجد والكرامة إلى الأبد.
القمص يوحنا نصيف
مايو 2025م