كمال زاخر
الإثنين 26 مايو 2025
التلمذة الروحية هي آلية الكنيسة النافذة فى تتابع نقل الإيمان وحياة التقوى من جيلٍ إلى جيل، هكذا تُخبرنا سير آباءها، وتؤكده صلوات الليتورجية الأثيرة، فيما يعرف بصلاة المجمع، وهي سر بقاء الكنيسة حتى اليوم، وعندما مرت بزمن الإنقطاع المعرفى، جراء محاصرتها والتضييق عليها، بامتداد قرون من القرن العاشر وحتى منتصف التاسع عشر، بقيت الليتورجية عمودها الفقرى ومخزن لاهوتها، ينتقل عبر الآباء البسطاء لأولادهم، وبقيت التلمذة كلمة السر فيما عُرف بالتسليم، حتى أضرمت شرارة التنوير، لتتحول الجذوة إلى مشاعل تنير الطريق.
وعبر سني صباي وشبابى تتلمذت على عديد من خدام كنسيين مستنيرين، كان أبرزهم الأنبا موسى أسقف الشباب، الذى كان له الفضل في اكتساب مهارات ترتيب الأفكار وتسلسلها، وفى انفتاح الذهن والقلب على اسفار الكتاب المقدس، وقراءتها فى ضوء ذخيرة الكنيسة اللاهوتية، بالتزامن مع دروس الأستاذ كمال حبيب، الخادم المكرس في اجتماعه الإسبوعي بكنيسة مار مينا بشبرا، قبل رسامته اسقفاً لإيبارشية ملوي، الأنبا بيمن.
وتعمقت العلاقة مع ابى الأنبا موسى حين تم تكليفه بالإشراف على كنائس وسط القاهرة، وكانت كنيستنا، مار جرجس بالقللي، احداها، وادركت سر حيوية ذهن هذا الأب وتعلقه المتميز بالكتاب المقدس وبالشباب، وهو تلمذته للأب المطران الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف ـ آنئذ ـ حين رسم خورى ابسكوبكس ـ اسقف مساعد له، وكان للأب المطران من اسمه نصيب، فى العمق اللاهوتي وحزم الإدارة في أبوة ووعي، وفى تواضعه ومحبته للكنيسة، الكيان والرعية.
وحين اشتبكت مع الشأن الكنسي في جانبه الرعوي والإداري، رأيت جانباً مهماً فيه، إذ واصل تواصله معي، في اتساع صدر يحسب له، وفي موضوعية الحوار وعمق توجيهاته، واتذكر عندما أصدرت كتيب "الأب دانيال : المصداقية، الاختراق، النكوص"، ديسمبر 1991، تلقيت اتصالاً تليفونياً من ابى الانبا موسى، بأن التقيه بأسقفية الشباب، وأن هذا اللقاء بتكليف من قداسة البابا شنودة الثالث بشأن هذا الكتيب.
واستقبلنى بابتسامته التى لا تفارق وجهه، وتحاور معى بانفتاح وأبوة فيما ورد بالكتيب، وكنت قبلاً قد تركت لنيافته نسختين فى مكتبه، واحدة لقداسة البابا والأخرى له. وجاء الاتصال الثاني بأنه قد اطلع قداسة البابا على محتوى اللقاء، بعدها اخبرنى الأنبا بيسنتي سكرتير قداسة البابا وأسقف حلوان، أن قداسة البابا ينتظرني يوم الأربعاء التالي، قبيل اجتماعه الإسبوعبي، ذهبت وكان لقاء أبوياً فى الكاتدرائية لا يمحى من الذاكرة، ونبه قداسته على طلبة الإكليريكية بقراءة هذا الكتيب.
عود على بدء؛ استطاع الأنبا موسى في وقت قياسي أن ينظم خدمة الشباب ويبعث فيها روحاً كنسية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، عبر عمل منظم ومرتب، بين لقاءات ومحاضرات ومعسكرات روحية، وكتب ونشرات تخاطب الشباب بلغتهم، وتقترب من حياتهم ومشاكلهم، والقضايا التي تؤرقهم، واصدر مجلة شهرية "رسالة الشباب الكنسي" تتناول وتطرح قضايا الشباب بانفتاح، وتتواصل معهم، واستطاع أن يتلمذ اجيالاً متتالية من الشباب، ويبذرهم فى حقل خدمة الكنيسة؛ مدنيين ومكرسين وكهنة. ومازال فى شيخوخته قادراً على بث الطمأنينة في قلب كل من يقصده، بوجهه البشوش وابتسامته الودودة.
ولم تتوقف خدمة اسقفية الشباب على الدوائر الروحية، بل سعت إلى تعزيز مشاركة الشباب في قضايا الوطن، وتشجيعهم على التفكير في دورهم في المجتمع، من خلال فعاليات "مجموعة المشاركة الوطنية" هي إحدى المجموعات المتخصصة التابعة لأسقفية الشباب بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والتى تنظم اجتماعاً دورياً تستضيف فيه محاضرين من الرموز الثقافية والسياسية الوطنية من كافة الاتجاهات السياسية والحزبية، وتتيح للشباب مناقشتهم فى تلك القضايا، وقد نجح الصديق سمير زكي فى ادارة هذا المنتدى بحكمة لبناء الوعى الوطنى لدى الشباب، وفي حمايته من الصراعات والانحيازات الضيقة.
كلما تأتي سيرة الأنبا موسى أجد كلمات المزمور الأولى التي تتصدر صلوات باكر في الإجبية ترافق صورته:
طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَارِ،
وَفِي طَرِيقِ الْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ،
وَفِي مَجْلِسِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ.
لكِنْ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ مَسَرَّتُهُ،
وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَارًا وَلَيْلاً.
فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ،
الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ،
وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ.
وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ فيه.
أبى المبارك الأنبا موسى ... فى ذكرى رسامتكم المباركة (25 مايو 1980) أقدم لكم وللكنيسة تهنئتي ومحبتى.