بقلم- القمص منقريوس المحرقي
 بعد أن أكمل ربنا يسوع المسيح عمل الفداء على الصليب، وقام من بين الأموات بقوة لاهوته، جاء اليوم الأربعون ليُتمّم خطة الخلاص بصعوده إلى السماوات، حيث جلس عن يمين الآب، رافعًا معه طبيعتنا البشرية إلى المجد. هذا الحدث الإلهي لم يكن فقط تتويجًا للفداء، بل كان أيضًا عربون رجائنا، وإعلانًا لحياة جديدة في الروح.

أولاً: الصعود هو ارتفاع الطبيعة البشرية
عندما صعد الرب يسوع إلى السماء، لم يصعد بلاهوته فقط، بل بجسده الممجد الذي أخذه من العذراء مريم. لقد أدخل طبيعتنا البشرية إلى حضن الآب. وكما قال الرسول بولس: "وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ،" (أفسس 2: 6)هذا يعني أن الإنسان، في شخص المسيح، قد دخل إلى السماء، وافتُتح له طريق الحياة الأبدية. لم يعد البُعد بين الله والإنسان كما كان، بل صار في المسيح قرب واتحاد.يقول القديس كيرلس الكبير:“لقد صعد الرب إلى السماء لا ليبتعد عنا، بل ليكون قريبًا منا أكثر، إذ أرسل روحه ليسكن فينا ويجعلنا هياكل لله.”

ثانيًا: عربون الرجاء والمجد الآتي
صعود المسيح هو وعد حيّ بعودته المجيدة في اليوم الأخير. كما قال الملاكان للتلاميذ:“إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء.”(أعمال الرسل 1: 11)فكما أنه صعد، سيأتي ثانية ليدين الأحياء والأموات، وليأخذ كنيسته – جسده المقدس – إلى المجد الأبدي. ويُعلّق القديس أغسطينوس على هذا السر قائلًا:"في صعود المسيح، صعد رأس الجسد، وسيتبعه الجسد كله، أي الكنيسة، إلى حيث يوجد الرأس." فالمسيح لم يصعد نيابةً عنا فحسب، بل لأجلنا ومعنا، ممهدًا الطريق لنصير شركاء في مجده، كأعضاء حيّة في جسده.
 
ثالثًا: حضور دائم رغم الغياب الجسدي
قد يظن البعض أن الصعود يعني غياب المسيح عن العالم، لكن الحقيقة أن الرب يسوع، بصعوده، ملأ كل شيء بحضوره غير المنظور، وأعطانا عربون حضوره بإرسال الروح القدس، الذي نحتفل بحلوله بعد عشرة أيام من الصعود في يوم العنصرة. ".. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ." (متى 28: 20) . وصعود المسيح لا يعني غيابه عن العالم، بل حضوره بطريقة أعمق وأشمل. ففي كلماته المضيئة، يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:"لمّا صعد المسيح إلى السماء، لم يترك الأرض، بل بقي يعمل فينا بروحه القدوس."إنه صعود لا يُبعدنا عنه، بل يقرّبنا منه. فقد ارتفع بالجسد، لكنه ملأ الكنيسة بروحه، وصار حاضرًا في الأسرار، وفي جماعة المؤمنين، وفي قلب كل من يفتح له أبواب حياته.

رابعًا: دعوة لنرفع قلوبنا إلى فوق
الصعود لا يُحتفل به فقط كحدث تاريخي، بل يُعاش كسرّ روحي في حياة المؤمن. كلما صلينا، وكلما قدمنا ذبيحة الإفخارستيا، نحن “نصعد” مع المسيح إلى السماء، ونعاين ملكوته، ونحيا بنعمة فوق الأرض. "فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ." (كولوسي 3: 1)الصعود هو دعوة لنعيش حياة السماويات، بعيدًا عن الأرضيات، ساعين إلى القداسة، رافعين أنظارنا إلى المجد الأبدي. في صعود ربنا يسوع المسيح، نجد ملء الرجاء، وكمال الفداء، وبداية الحياة الجديدة التي ترتفع فوق الزمن والمكان. فلنثبّت أنظارنا على السماويات، عارفين أن لنا هناك شفيعًا ورئيس كهنة أبدي، ينتظرنا لنكون معه إلى الأبد. "لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ." (عبرانيين 13: 14).

 الخلاصة إن بصعود السيد المسيح،لا ننظر إلى السماء كبعيدة، بل كدعوة مفتوحة لحياة شركة ومجد.الرب لم يغادرنا، بل حضر فينا بطريقة أعمق بروحه القدوس.إنه المجد الموعود... الذي بدأ منذ أن جلس الرأس، منتظرًا جسده.