بقلم: أيمن فايز
فَنّانٌ تَشْكِيلِيٌّ، وَكَاتِبُ إِيْقُونَةٍ بِيْزَنْطِيَّةٍ
مَدَاخِلُ الضُّمُورِ وَأُفُقُ النُّبُوَّةِ
في جُبَّةِ مصر، حيثُ انقلبَ الزمانُ صُورًا وجُدرانًا، يُطرَحُ سؤالٌ لا يشيخ:
هل الفنُّ القبطيُّ سليلُ المعابدِ الفرعونيّة؟
وهل الكنيسةُ، بما احتوت من رموزٍ وأشكالٍ وألوان، ليست إلا صورةً مستحدَثةً من جسدٍ قديم؟
أهو استمراريَّةٌ أم قطيعةٌ؟ إعادةُ تدويرٍ أم انبثاقٌ من النور؟
كثيرةٌ هي الأقلامُ التي أغوتها التماثلاتُ الظاهريّة، فنسجتْ مقولاتٍ تُقيم صلاتٍ مشتهاة بين ملامحِ الفنّ المسيحيّ في مصر وبعض ما تركه المصريُّ القديم من علاماتٍ محفورةٍ في حوائط القبور والمعابد. لكن، هل تكفي الألوانُ المتقاربةُ، والوضعياتُ المتكرّرةُ، والرموزُ المشتركةُ لتقرير النَّسَب الفنيّ والروحيّ؟ أم أنّ ثمّة بُعدًا يُقرأ فقط حين تتطهّر العينُ من الجغرافيا، وتغدو لاهوتيّةً؟
هَلِ الْفَنُّ الْمَسِيحِيُّ صَدًى لِمَعَابِدِ رَعْ؟ خُدَاعُ التَّشَابُهِ وَسِرُّ التَّجَسُّد
تَمَاثُلُ الأَشْكَالِ لَا يَعْنِي وَحْيًا مُشْتَرَكًا،يُروِّج بعضهم لفكرةٍ مفادُها أنَّ المسيحيّ المصريّ لا يزال امتدادًا روحيًّا وثقافيًّا لمصر القديمة، وأنَّ فنَّهُ ما هو إلَّا استمرارٌ لفنونِ المعابد والرموز الوثنيّة، في محاولة لصياغة هويّة قوميّة تُبنى على أنقاض الهويّة الكنسيّة، وتَغفل عن الرؤية الخلاصيّة التي يقدّمها الإيمان.
نَعَم، ثمَّة مَن يرى في الهالةِ النُّورانيّة التي تُحيطُ برؤوسِ القِدِّيسين ظلًّا شمسيًّا يُحاكي شُعاعَ "رَعْ"، وفي العذراءِ مريمَ الحاملةِ طفلَها يسوعَ صدىً لِتِمثالِ "إيزيس" و"حورس". وقد يُلاحَظُ تشابُهٌ في تسطيحِ الجسدِ، وغيابِ العُمقِ، وبقاءِ بعضِ الرموزِ النباتيّةِ كالسعفِ، والنخلِ، والكرمةِ. بل إنّ الأعمدة الفرعونيّة التي تحاكي جذوع النخل، تُقابَل في الكنيسة بأعمدةٍ ترمز إلى الرُسل، أعمدة الكنيسة الروحيّة.
لكنّ الحقيقة لا تُدرَك من خلال العَين، بل من خلال الرُّوح. فالتشابه البصريّ قد يُخادع، لكنّه لا يُنتج سرًّا، ولا يُولد وَحيًا. الفنُّ المسيحيّ ليس تقليدًا بصريًّا، بل هو انقلابٌ لاهوتيّ، لا يستدعي الموتَ، بل يُعلِنُ الحياة، لا يخرج من المدافن، بل ينبثق من القبر الفارغ.
فَلَم يَصِرِ الهَرَمُ كَنيسَةً، ولا هَياكِلُ الفَرَاعِنَةِ أَصبَحَت بُيوتًا لِلصَّلاةِ المَسيحيَّةِ. في مصر القديمة، لم يكن أحدٌ يدخل إلى قدس الأقداس إلا الكاهن الأكبر. أمّا في الكنيسة، فالهيكل مفتوحٌ للجميع، رمزًا للجماعة، ولخلاصٍ لا يُقصي أحدًا.
الفنُّ المسيحيُّ نبعَ من السِّرّ، من الكلمةِ التي "صارَتْ جسدًا، وحلَّتْ بيننا". ليس صدىً لرموزٍ شمسيّة، بل إشراقٌ من النور الحقيقيّ. ليس استحضارًا لآلهةِ الأرض، بل تجلّيًا للإلهِ المُتجسّد.
فشَتَّانَ بينَ مَن بنى معبدَهُ ليصيرَ قبرًا أبديًّا، ومَن شيَّد كنيستَهُ لتكونَ جسدًا جماعيًّا يسبحُ في سرّ الخلاص.
مَا بَيْنَ "الْكَا" وَ"الْنُّورِ": تَحَوُّلٌ لَا تَرَاوُحٌ
الاختلاف الجوهري: بين "التحنيط" و"التجسيد"!
في قلب الفلسفة الدينيّة للمصريّ القديم، يسكن مفهوم الـ "كا" – الظلّ الروحيّ الذي يبقى في عالم الموتى، ويحتاج إلى طعامٍ وتماثيل ليبقى. هذا المفهوم هو جذرٌ لفنٍّ يقوم على البقاء، على استرضاءِ القوى السُّفليّة، وعلى حفظ الهيئة في تمثالٍ سرمديّ.
أمّا الفنّ المسيحيّ، فهو فَنُّ الانفتاح على الأزليّ، إعلانٌ بأنّ الجسدَ سيمجَّد، لا يُحنَّط، وأنّ الروحَ تُستنار، لا تُستَرضى.
مِنَ الرُّمُوزِ السِّحْرِيَّةِ إِلَى نَافِذَةِ الْمَلَكُوتِ
هناك فرقٌ شاسعٌ بين التميمة والصورة؛ فالتميمة تُستدعى لفتح أبواب قوى خفية، أما الإيقونة فهي نافذة نورانية تُبجَّل وتُوقَّر، لا تُستخدم كما تُستخدم الأدوات، بل تُعانَق بالروح وتُفتح على عالم القداسة.
وقف آباء الكنيسة العظام - أثناسيوس الإسكندري، وكيرلس الكبير، والأنبا شنودة رئيس المتوحدين - كالأسود في وجه محاولات المزج بين المسيحية وأصالة الوثنية، رافضين المزج والخليط، وراسخين قطيعة جذرية مع رموز السحر والوثنية.
ومن تلك القطيعة، ولد الفن القبطي، لا كصدى للأشكال القديمة، بل كوميض نور يشق عتمة الزمان، فنٌّ يُضيء دروب الروح، مبني على التجريد والروحانية، لا على التشابه السطحي والجمود البصري.
إنه فنٌ يُعبّر عن نورٍ داخليٍّ ينبثق من التجسد، فنٌ يحرّك القلب والعقل معًا، متجاوزًا حدود المادة وظلالها.
وَهْمُ الْقَوْمَنَةِ وَخَطَرُ قَلْبِ الرُّؤْيَةِ
إنّ اختزال الكنيسة القبطيّة إلى مجرد امتداد قومي فرعونيّ، هو نَسْجٌ مُحْكَمٌ لوَهْمٍ يَحجبُ النورَ الحقيقيّ ويُخدِشُ جوهرَ الخلاص. هناك، في زوايا النكوص والهواجس الهوياتيّة، تُساقُ رواياتُ الاستمرارية الحضاريّة لتلبسَ الكنيسة ثوبَ عصورٍ عتيقة، وتُروَّجَ سرديّات تُشبعُ نهمَ القوميات لا بَصَرَ الروح.
لكن الكنيسة، بأصلها وشكْلها، ليست قبراً عتيقاً يُعاد تعبيده، بل هي القبرُ الفارغُ الذي أشرقت منه البشارةُ، والقيامةُ التي هزّت الظلماتِ وأيقظت النور.
إنّها ليست استمرارَ ماضٍ مدفون، بل انفجارُ حياةٍ تتجدّدُ بلا انقطاع، نورٌ يختصرُ المسافات، ورؤيا تُغيّرُ الوجدان، وتَسْتحيلُ منهجًا للوجود.
الجُذُورُ الْمُقَدَّسَةُ: رِحْلَةُ الْفَنِّ الْمِصْرِيِّ مِنَ الْأَكْرُوبُولِيسِ إِلَى الْهَيْكَلِ الْبِيزَنْطِيِّ
لا يكتملُ فهمُ الفنِّ المسيحيِّ في مصرَ إلا بتتبعِ خطواته الوارفةِ في ترابِ حضارتين عميقتين: الحضارة الإغريقية المعتقة بالفلسفة، والحضارة البيزنطية المتوّجة بالإيمان.
منذُ أن وطئتْ أقدامُ الإسكندرِ الأكبرِ أرضَ الكلمةِ المقدسةِ، دخلت مصرُ في حمامِ الهيلينية، ذاك العصرُ الذي ذابت فيه الحدود بين الشرق والغرب، وولدَت لغةٌ بصريةٌ جديدةٌ تحملُ نبضَ الحياة وأسرارَ الألوهة.
في الإسكندرية، حيث يلتقي نبض أفلاطون بصمت الأنبياء، وُلد فنٌّ يحاور الجسدَ والروحَ، رسمٌ يصعدُ من أحضان الفلسفة إلى سماء التجسّد، ولونٌ يتشحّب بأنوار الشمس البيزنطية، يستقي ظلاله من صحراء سيناء. هناك، تحوّلت الفرشُ إلى صلاةٍ، والألوانُ إلى ترتيل.
الإيقونة: وليدةُ الرحلتين
لم تكن الإيقونة القبطية قطعةً مهشمةً من معبدٍ وثنيّ، بل كانت ابنةً لأبهى رحلةٍ تأسيسية، بدأت بنقش إيقونة في صخر دير سانت كاترين، وترسخت في أديرة القسطنطينية كنبوءة، ثم استقرّت في صمت وادي النطرون، لتكون حرفًا منقوشًا بلغة الملائكة، ومفتاحًا يفتح أسرار الأرض للسماء.
هكذا تحمل الإيقونة في طياتها نفس الفلاسفة الإغريق، وعمق الحكمة الشرقية، وصليل الإبرة البيزنطية. فهي ليست مجرد رسمٍ على خشب، بل هي حكاية الأتقياء، التي تشرق من بين الألوان كالشمس التي لا تغيب.
الْفَنُّ الَّذِي يَنْبَثِقُ لَا يَقْتَبِسُ
ليسَ الفنّ المسيحيّ نسخةً معدَّلةً من الموروث الفرعونيّ، بل هو وثبةٌ روحيّة، وعبورٌ من عالمِ التماثيل إلى عالمِ الكلمة المتجسّدة. هو فنٌّ لا يُختَزَل في أشكالٍ، بل يُستعلَن في الأسرار.
توصيات نهائيّة: نحو استعادة البصيرة الإِيقونِيّة
1. ضرورة تكوين لجان كنسيّة متخصّصة لتقييم جودة الإِيقونات في الكنائس، وفق معايير لاهوتيّة وجماليّة صارمة، تَجمع بين التقليد الأرثوذكسيّ والبصيرة الروحيّة.
2. توقّف شامل عن قبول الإِيقونات التجاريّة أو الاستعراضيّة التي تفتقر إلى البُعد النورانيّ، وتُشوّه سرّ التجسّد، تحت ذريعة "الحداثة" أو "الإبداع الفرديّ".
3. دعوة كلّ كاتب إِيقونة حقيقيّ إلى العودة إلى الحياة النسكيّة الصامتة، لأنّ الإِيقونة لا تُولد من المهارة فقط، بل من الاتّحاد بالسرّ.
4. إعادة هيكلة مناهج التعليم الكنسيّ والفنّيّ، لتشمل تعليمًا لاهوتيًّا وجماليًّا عميقًا حول الإِيقونة، يربطها بالليتورجيا والأنثروبولوجيا المسيحيّة.
5. إطلاق مؤتمر كنسيّ جامع حول واقع الإِيقونة المعاصرة، يضمّ الرعاة والفنّانين واللاهوتيّين، لتقييم الانحرافات، واقتراح رؤية إصلاحيّة جماعيّة.
6. تجديد النظرة الكنسيّة إلى الإِيقونة كصلاة مرئيّة وكرازة صامتة، وليس كمجرّد زينة معمارية أو منتج بصريّ.
7. تشجيع البحوث والدراسات المتخصّصة في عِلم الإِيقونة وربطها بالممارسة الطقسيّة والتاريخ الروحيّ للكنيسة، لتكوين جيلٍ جديد من الكَتَبة، لا من الرسّامين.