بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
يقول القدِّيس كيرلس الأورشليمي: يليق بالنفس الطاهرة إن تقول بثقة "ليأت ملكوتك"، لأن الذي يسمع بولس يقول: " لا تملُكن الخطيَّة في جسدكم المائت" (رو 6: 12)، يعمل علي تطهير نفسه بالفعل والفكر والقول، ويستطيع القول: "ليأت ملكوتك".

يقول القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص:  نسأل أيضًا الرب إن يُخلِّصنا من الفساد لينزع الموت أو كما قيل "ليأت ملكوتك"، أي ليحل الروح القدس علينا ويطهرنا.

ملكوت الله هو غاية إيماننا، فإنّنا نشتهي أن نراه قادمًا على السحاب يستقبل عروسه المقدّسة وجهًا لوجه ليدخل بها إلى العرس الأبدي، هذا الملكوت هو امتداد وإعلان للملكوت القائم فعلاً في الكنيسة المقدّسة على الأرض، حيث يملك ربّنا يسوع على القلب، ويُعلن أمجاده في داخله، فما ينعم به أبناء الملكوت في اليوم الأخير لا يكون غريبًا عنهم، كما أن ما يعاينه أبناء الظلمة هو امتداد لما تذوّقوه هنا. إذن فالطلبة هنا تخصّنا نحن "ملكوت الله"، حيث نسأل إلهنا أن يُعلن بهاءه فينا بروحه القدّوس في الابن الوحيد فننال الملكوت، بل نصير نحن ملكوته.

يقول القدّيس أغسطينوس:  لا نقول: "ليأتِ ملكوتك" كما لو كنّا نسأل أن يملك الله، إنّما لكي نصير نحن ملكوته، ذلك بإيماننا به وتقدّمنا في الإيمان به.
القدّيس جيروم:  يُقصد بالصلاة "ليأتِ ملكوتك" أن الله يملك على العالم كلّه حين يتوقّف الشيطان عن ملكه، أو أن الله يملك على كل واحدٍ فينا، ولا تملك الخطيّة بعد في جسد الإنسان المائت.

القدّيس كبريانوس: لا يليق بنا ونحن نطلب ملكوت الله أن يأتي سريعًا، إننا أنفسنا نهتم أن يطول بقاؤنا في هذا العالم.

القدّيس كبريانوس: نسأله أن يُقام ملكوت الله بالنسبة لنا وذلك كما نسأله أن يتقدّس اسمه فينا... فنحن نصلّي لكي يأتي ملكوتنا الذي وعدنا الله به، والذي تحقّق خلال دم المسيح وآلامه، حتى أننا نحن الذين صرنا خاضعين له في العالم نملك مع المسيح، إذ وعد قائلاً: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34).

ما المقصود بطلبة " ليات ملكوتك " ؟

1 – المعني الروحي : ملكوت الله علي القلب .

إنه الملكوت الداخلي الذي قال عنه الرب " ملكوت الله داخلكم " ( لو 17 : 21 ) .. أي أن الله يملك على المشاعر والعواطف والنيات ويملك على الإرادة وعلى الرغبات والشهوات، ويملك أيضاً على الأفكار والحواس. وإذا ملك الرب على القلب، يملك بالتالي على كل ما يصدر عن هذا القلب. لأن " الإنسان الصالح، من كنز قلبه الصالح يخرج الصالحات. والإنسان الشرير، من كنز قلبه الشرير يخرج الشرور" (مت12 : 35) . لقد تكلمنا عن عبارة (ليأت ملكوتك)، من جهة الملكوت الداخلي، الذي به يملك الرب حياة الإنسان كفرد ... على أن العبارة قد تتسع، فيشمل الملكوت كل القلوب الخاضعة للرب. وهنا يكون الملكوت هو الكنيسة ... وحينما يقول الكتاب إن الابن سيسلم الملك كله للآب (1 كو 15 : 24) إنما يعني إنه سيسلمه الكنيسة ...

2 – المعني الثاني: هو الملكوت بالمعني الكرازي:
أي ينتشر ملكوتك في الأرض كلها. ينتشر الإيمان في كل الأمم وكل الشعوب، وفي كل مدينة وقرية .. ويعرف الجميع اسم الرب، ويسيرون في طرقه. وهنا تكون الطلبة صلاة إلى الله أن يعمل روحه القدوس علي نشر الإيمان، ويعطي قوة للكرازة ونعمة للسامعين ... وعن الملكوت بهذا المعني نصلي في المزمور قائلين: فلتعترف لك الشعوب يا الله ، فلتعترف لك الشعوب كلها ( مز 66 ) . وبه يتحقق أيضاً قول المرتل " للرب الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها " ( مز 24 : 1 ). أي يصبح العالم كله ملكاً لله، لأنه له ... و كان الرب يقصد هذا الملكوت حينما قال لتلاميذه " اذهبوا إلي العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص" ( مز 16 : 15 ،16 ) . وكما قال لهم أيضاً " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس، وعلموهم جميع ما أوصيتكم به" ( مت 28 : 19 ، 20). هذه هي مملكة الله: كل الذين آمنوا واعتمدوا ونفذوا الوصايا.

مملكة الله هي صورة سفر الرؤيا: الكنائس السبع، وفي وسطها ابن الإنسان، أي كل الكنائس،  والرب وسطها. مملكة الله هي المنائر الذهبية، تشع نوراً عل العالم .

و نحن نصلي أن يكون جميع الناس، أعضاء في هذا الملكوت وأبناء للنور. ولأن الأمر لايمكن أن يتم بمجرد بشري، لذلك نصلي إلي الله قائلين " ليأت ملكوتك ". نصلي إليه من أجل الذين لم يعرفوه بعد، لم يؤمنوا به، و لم يقبلوه فادياً ومخلصاً. نصلي من أجل البلاد الملحدة، والبلاد التي تعبد عبادات أخرى. ومن أجل البلاد التي لا تؤمن بالإنجيل. ونقول من أجل كل هؤلاء " ليأت ملكوتك ".
لا نقصد ليأت ملكوتك بالنسبة للملحدين والوثنيين فحسب، إنما أيضاً من أجل الذين دعي اسم المسيح عليهم، ولكنهم محتاجون إلي التوبة، لأن مجرد الاسم بدون حياة لايخلص. نطلب أن يملك الرب إيمان هؤلاء ويعطيه ثمراً ...

3- المعني الثالث للملكوت: يقصد به الملكوت السماوي، الأبدي في أورشليم السمائية:
هناك مسكن الله مع قديسيه، يجتمع معه الملائكة، و كل القديسين الذين إنتقلوا، والقديسون الذين يحيون معنا ، والذين سيولدون ... الكل ينضم كأعضاء في جسد المسيح، تكميل القديسين. هذا الملكوت السماوي، هو الذي قال عنه الرب " نعماً أيها العبد الصالح و الأمين، كنت أميناً في القليل، فسأقيمك علي الكثير. أدخل إلى فرح سيدك " (مت 25). وقال عنه أيضاً " تعالو يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم". أي ملكوت الله، وموعده بعد القيامة والدينونة، حينما يأتي في مجيئه الثاني، لينهي هذا العالم المادي، ويضم مختاريه إلى ملكوت السموات، إلي أورشليم السمائية التي هي مسكن الله مع الناس ( رؤ 21 : 2 ، 3 ) ... حينما يخضع الكل، واَخر عدو يبطل هو الموت، ويسلم الملك لله الآب( 1كو 15 : 24، 27 ). كأننا هنا في صلاتنا هذه نطلب الأبدية السعيدة ... ولكننا في طلبتنا ( ليأت ملكوتك ). نقصد الأنواع الثلاثة من الملكوت.

الله في ملكوته يملك بالحب لا بالضغط: يملك على الذين يحبونه، لا يضغط علي أحد، ولا يرغم أحداً على الإنضمام إلى ملكوته. إنما يريد الذين ينضمون إليه بإرداتهم الحرة، كذلك القديس الذي قال" من كل قلبي طلبتك، فلا تبعدني عن وصاياك " ( مز 119 ). هوذا الله يخاطب كل أحد منذ القديم قائلاً " قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة. فأختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك. إذ تحب الرب إلهك، وتسمع لصوته وتلتصق به، لأنه هو حياتك " ( تث 30 : 19 ، 20 ). إنه يقول " يا إبني أعطني قلبك " ( أم 23 : 26 ). لأنه يريد أن يملك علي هذا القلب بالذات.

ونحن حينما نقول: ليأت ملكوتك، إنما نقصد ملكوته على إرادتنا وقلوبنا. إنها صلاة منا إليه، أن يحول قلوبنا نحوه، وأن يحول إرادتنا نحو مشيئته. وكأننا نقول له " تعال يا رب و أملك". وإن أردت أن تملكنا، ولم نرد نحن، فلا تتركنا بل حول قلوبنا نحوك. اسكب محبتك في قلوبنا بروحك القدوس ( رو 5 : 5 ). تعال يا رب و املك. ولا تسمح للخطية أن تملك علينا ... ولا تسمح للشيطان أن يبقي رئيساً لهذا العالم، ولا رئيساً على أبنائك الذين اشتريتهم بالدم الكريم. نحن ملكك، فتمسك بملكوتك علينا. ولا تسمح لأي أحد أو لأي شئ أن يخطفنا من يدك ( يو 10 : 28 ) أو يبعدنا عنك ...

عبارة " ليأت ملكوتك " هي صلاة لأجل الملكوت، وأيضاً لأجل أنفسنا، ولأجل خدام الملكوت. وينبغي أن نكون جميعاً من خدام الملكوت ... إنها صلاة من أجل كل رتب الكهنوت ، ومن أجل كل الوعاظ والكارزين والخدام والمعلمين والمرشدين، ومن أجل كل نفس لها تعب في الكنيسة. وأيضاً من أجل أن تكثر القدوات الصالحة التي يتعلم الناس من حياتها كنماذج عملية قدامهم. وبهذه القدوات ينتشر الملكوت.  نحن يا رب قد تعبنا النهار كله و لم نصطد شيئاً، ولكن على اسمك نلقي الشبكة (لو 5 : 5) قائلين: " ليأت ملكوتك " .. إنه صراع مع الله لأجل ملكوته ...

إن عبارة " ليأت ملكوتك " ليست مجرد صلاة، إنما هي صلاة وعمل. تشمل أيضاً عملنا لأجل الملكوت. إن كنا حقاً نطلب ملكوت الله، فلنعمل من أجله، فلنشترك في بنائه، ونجول نفعل خيراً (أع 10 : 38) . ونخلص على كل حال قوماً .. (1كو 9 : 22) لأنهم كيف يؤمنون إن لم يسمعوا، وكيف يسمعون بلا كارز؟! (رو 10 : 14). هل نطلب أن ينتشر ملكوت الله في الأرض كلها، ونحن نيام كسالي؟ إذن أين الحب؟ وأين الغيرة؟

حقاً إن الله يعمل من أجل بناء ملكوته، ولكن ينبغي أن نشترك معه في العمل، ونطلب نعمته أن تشترك معنا، لقد قال بولس الرسول، عن نفسه وعن سيلا " نحن عاملان مع الله " (1 كو 3 : 9) . هذه هي شركة الروح القدس .. نحن لا نشترك مع الروح في الطبيعة والجوهر إنما نشترك في العمل.

وكل واحد منا، له دور في بناء الملكوت: وفي هذا قال بولس الرسول " أعطي البعض أن يكونوا رسلاً، والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين، لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح" (أف 4 : 11 ، 12).

حينما نقول " ليأت ملكوتك "، إنما نقدم أنفسنا عملياً لخدمة هذا الملكوت. نحن مستعدون يا رب أن نبني الملكوت معك، وننشره معك، ونعمل فيه معك. لا نريد أن نأخذ منك موقف المتفرج، ونقول " ليأت ملكوتك" ونحن في سلبية مخجلة!! كلا، بل ليأت هذا الملكوت، وكلنا خدام لمجيئه، نبذل في سبيل ذلك كل ما تهبنا من قوة ... كلنا كسفراء لك: ننادي، كأن الله يعظ بنا، ونقول للكل "اصطلحوا مع الله" ( 2 كو 5 : 20 ). سلموه قلوبكم لكي يملكها ... نقولها ونحن نصلي من أعماقنا من أجل الخدمة والخدام، ومن أجل كل نفس تخدم هذا الملكوت وتبذل في سبيله، ومن أجل كل قلب لم يدخل إلى الملكوت بعد ... نقول "ليأت ملكوتك" ، و نحن نطلب إلى الرب الحصاد أن يرسل فعلة لحصاده " ( مت 9 : 38 ) .

حقاً إن عبارة " ليأت ملكوتك " فيها توبيخ لي. فليس منطقياً أن أقول " ليأت ملكوتك" بينما أنا مشغول عنه بأمور العالم!! هل أطلب الملكوت، وأنا هارب منه؟! فإن أردنا أن يملك الله على قلوبنا، فيجب أن نخلي القلب من محبة العالميات التي تعطله عن محبة الله. فالكتاب يعلمنا أنه "لا شركة بين النور والظلمة، وأية خلطة للبر والإثم ؟!" ( 2 كو 6 : 14 ) حقاً، كيف يملك الله قلباً وشهوات العالم مالكة عليه؟! فلنحاول إذن إزالة المعطلات التي تعرقل ملكية الله لنا، سواء كأفراد أو جماعات.

وأن أردنا أن نكون من بني الملكوت، فلنعرف صفاتهم. هوذا الرب يقول عن الملكوت ... " طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات " ( مت 5 : 3 ) . و يقول أيضاً " إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السموات " ( مت 18 : 3 ) . هل نفهم من هاتين الآيتين إنه ينبغي أن نتصف بالإتضاع وأيضاً ببساطة الأطفال وبراءتهم لنكون من بني الملكوت؟ ما أجمل أن نتأمل باقي الآيات الخاصة بالملكوت، لنعرف أعماق عبارة " ليأت ملكوتك " ... اترك هذا مجالا لتأملاتكم الخاصة. ويكفي أن أقول إنه مادمنا قد اشترينا بثمن، وإننا لسنا لأنفسنا (1 كو 6 : 20 ، 19) ... فقد صرنا كلنا لله، هو الذي يملك كل حياتنا ووقتنا، وكل قلوبنا وأفكارنا ومشاعرنا وحواسنا.

القديس كبريانوس: ويتبع ذلك في الصلاة "ليأتِ ملكوتك" نحن نطلب أن يستعلن لنا ملكوت الله كما نطلب أن يتقدس اسمه فينا. فمتى كان الوقت الذي لم يملك فيه الله؟ أو متى تكون بداية ملكه الذي كان دائماً وليس له نهاية؟ نحن نصلي أن يأتي ملكوتنا الذي وعدنا به الله، الذي نلناه بدم المسيح وآلامه، لكيما نملك مع المسيح نحن الذين كنا قبلاً خاصته الذين في العالم، كما يعدنا هو نفسه ويقول "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 34:25). أيها الأخوة الأعزاء نستطيع أن نعتبر المسيح نفسه هو "ملكوت الله" الذي نريده كل يوم أن يأتي، الذي نشتهي أن يُستعلَن لنا سريعاً. حيث أنه هو نفسه القيامة(يو25:11)، إذ فيه سنقوم من جديد، فهكذا أيضاً نستطيع أن نفهم أن ملكوت الله هو المسيح نفسه حيث أننا سنملك فيه.

القديس أغسطينوس: إن مجيئه آتٍ لا محالة، سواء سألناه ذلك أو لم نسأله. حقًا إن ملكوته أبدي، لأنَّه في أي وقت لم يكن لله ملكوت؟! متى بدأ يملك؟! إن ملكوته بلا بداية ولا نهاية.

ينبغي علينا أن نعلم أنَّنا نصلِّي بهذه الطلبة لأجل أنفسنا وليس لأجل الله، لأنَّنا لا نقول "ليأتِ ملكوتك"، كما لو كنَّا نسأل من أجل أن يملك الله، بل لكي نكون نحن من ملكوته، وذلك إن آمنّا به وتقدَّمنا في إيماننا هذا. كل المؤمنين الذين يخلصون بدم ابنه الوحيد سيكونون ملكوته. وهذا الملكوت آتٍ بعد القيامة، حيث يأتي الابن بنفسه ويقيم الأموات. ويقول للذين عن يمينه: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت" (مت ٢٥: ٣٤). هذا هو الملكوت الذي نرغبه ونطلبه بقولنا: "ليأت ملكوتك". إنَّنا نطلب أن يأتي بالنسبة لنا، لأنَّه وإن لم يأتِ بالنسبة لنا فسيأتي ولكنَّ للآخرين. أمَّا إذا اِنتمينا إلى أعضاء ابنه المولود الوحيد، فسيأتي ملكوته بالنسبة لنا ولن يتأخَّر.

في الطلبة الثانية للصلاة الربّانيّة "ليأتِ ملكوتك" ندعو الله أن يُرسل أو يُحضر ملكوته. هناك كثير من الكتابات عن هذه الطلبة، بالتحديد عن ماهية ملكوت الله وكيفية إتيان ملكوت الله للإنسان والعالم.

من إحدى شروحات مجيء ملكوت الله، أن يأتي الحضور الثاني للمسيح سريعًا، أيّ أن يأتي المسيح ليدين البشر، وهذا يعني أن يأتي ذلك اليوم الذي ستقوم فيه كلّ أجساد البشر وتبدأ دينونتهم. هذه الطلبة مطلبٌ مضمونٌ؛ مطلب ابنٍ معترف بالجميل لا يتعلق بالمنظورات بل يلجأ إلى الآب ويتوق للمستقبلات. مثل هذا الطلب هو ثمرة الضمير الصالح الذي قد تخلّص من الأمور الأرضيّة. وأيضًا، الضمير الذي يمتلك المحبة لمجيء ملكوت الله، أيّ لحضوره الثاني، فلا يتكبر ولا يتغطرس على خيرات هذه الحياة، ولا يصبح ذليلاً منسحقاً ومنهاراً من أحزانها. يشعر أنّه وُجد في مكان منفي، في غربة ينتظر العودة إلى وطنه.

يحنّ المسيحيون الأوائل والمؤمنون إلى هذا الملكوت، ويشتهون مجيء المسيح ليتحدّوا معه كما في الزواج، طالما هم يمتلكون الآن العربون الروحي. وهذا بالضبط يشترط نقاوة داخليّة وضمائر مستيقظة. ومن الجدير بالذكر أن الرسل يوضّحون في رسائلهم أن ملكوت الله قريب، للذين يعيشون اسخاتولوجياً. ينتهي كتاب رؤيا يوحنا  بالصرخة "تعال، أيها الرب يسوع" (رؤيا :20). أمّا التفسير الآخر لـ"ليأت ملكوتك"، أن تأتي نعمة الله في قلوبنا بقول المسيح "ملكوت اللّه فيكم" (لو20:17). وكلمة "فينا" لا تعني بيننا بل في قلوبنا، طبعاً. الذين يملكون نعمة الله في قلوبهم يشعرون بروح الشركة، باشتراكهم معاً. وهؤلاء يشعرون بملكوت الله كحالة روحية وليس بإحساس نفسي أو عاطفي سامٍ من خلال الشكر الإلهي والعبادات الإلهية العامة. وفضلاً عن ذلك، القداس الإلهي بحسب تفسير الآباء القديسين فيه تقدمة أسخاتولوجيّة تعرض حياة ملكوت الله الذي سيتم بملئه في المستقبل.

ملكوت الله داخلنا، يأتي عندما نفتح قلوبنا ونقبل نعمة الله بطرق متنوعة. هذا يبدأ بالتوبة، فنعمة الله تُحرق الأهواء ونشعر بها كقوة لاذعة. تزداد هذه النعمة ببهجة وفرح داخليّين عندما يذكر الإنسان اسم الله باستمرار ويصلّي إليه، عندئذٍ يستنير ذهنه ويشعّ. وبالنهاية عندما يكون الإنسان مستحقاً أن يرى الله في نوره حينئذٍ يرى ملكوت الله.

ويظهر هذا في الانجيل المقدس ، فقبل تجلي المسيح قال لتلاميذه: إنّ البعض بينكم لن يموتوا ليروا ملكوت الله الذي سيأتي "بقوة". وبعد هذا بقليل أخذ منهم ثلاثة تلاميذ وأصعدهم إلى جبل ثابور وتجلّى أمامهم. عندئذٍ رأى التلاميذ وجهه مضيئاً كالشمس و أصبح رداؤه ناصع البياض كالنور، وبحسب تفسير الآباء رؤية المسيح هذه داخل النور كانت رؤية ملكوت الله.

يجب أن نطبّق ملكوت الله في حياتنا، علينا أولاً أن نقبله في قلوبنا بقوى الله المطهّرة والمنيرة. وبعد هذا سنتذوقه في المستقبل. والعكس صحيح أيضاً، فعندما نرغب بالمجيء المستقبلي لملكوت الله سنشتهيه وهذا يقودنا إلى التوبة وتذوق الملكوت في هذه الحياة. في الوقت الذي أتى فيه ملكوت الله بتجسد المسيح، ويأتي بالتوبة وشركتنا مع المسيح، وسيأتي بالحضور الثاني.

لسوء الحظ، يرغب الكثير منّا بمُلكٍ أرضيّ، سُلطات، ومسّرات؛ وكما نرغب بأن نقيم ملكوتنا على الأرض وأن لا نتمسك بملكوت المسيح. عندئذٍ يجب أن نبدّل منهجنا ونطلب ملكوت الله بالطريقة التي قدّمناها سابقاً إلى أن نلتقي بروح الصلاة الربّانيّة.

الذين يدعون الله أبًا يطلبون مجىء الملكوت، بمعنى مجىء المسيح بملكه الكامل لأنهم ينتظرون الأكاليل عند مجيئه " تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت.. " (مت34:25)، لأنهم جاهدوا وصاروا أنقياء، واحتملوا الآلام والإضطهادات لأجل مجد المسيح، و(2تى12:2) " إن كنا نصبر فسنملك أيضًا معه " و(فى21:3) " سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده " . وإنهم آمنوا بما قاله عن نهاية العالم أنهم "سيضيئون كالشمس فى ملكوت أبيهم" (مت43:12)