د. رامي عطا صديق
فى قاعات قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، كانت الدكتورة عواطف عبدالرحمن- متّعها الله بالصحة والعافية- تُدرس لنا مادة «مناهج البحث»، وكانت تقول لنا إن مهمة الباحث الأساسية هى إنارة منطقة مُعتمة، وكأن الباحث يحمل فى يديه كشافًا ويقوم بتسليط الضوء على موضوع أو قضية ما بغرض فهم كافة تفاصيلها ومعرفة مختلف أبعادها، وكانت تستضيف بعض الأكاديميين من المُتخصصين فى حقول معرفية متنوعة، نتحاور معهم ونستفيد من رؤاهم وأفكارهم، حيث كانت تنبهنا إلى أهمية البحوث البينية التى تجمع بين أكثر من تخصص، فى إطار مدخل التكامل المعرفى بين العلوم.

هكذا اعتبرنا البحث العلمى طريقًا رئيسيًا وسبيلًا أساسيًا للوصول إلى المعرفة، وأنه وسيلة يمكن بواسطتها التوصل إلى حل مشكلة محددة، أو اكتشاف حقائق جديدة عن طريق معلومات دقيقة. ومن بين تعريفات البحث العلمى شائعة الاستخدام أنه مجموعة من الإجراءات النظامية التى ينتهجها الباحث «ة» أو الدارس «ة»، من أجل التعرف على جميع الجوانب المُتعلقة بموضوع أو إشكالية علمية، والهدف النهائى هو حل تلك المشكلة، أو فهم ظاهرة ما ومعرفة أﺳـﺒﺎﺑﻬﺎ وﺁﻟﻴـﺎت ﻣﻌﺎﻟﺠتها، وقد يتعلق البحث العلمى باﺳﺘﻘـﺼﺎء ﺻـﺤﺔ معلومة أو اختبار ﻓﺮﺿـﻴﺔ أو توضيح موقف.

يقوم البحث العلمى على تنظيم المعرفة وترتيبها تمهيدًا للاستفادة منها، حيث إن له فوائد متعددة، وعلى أكثر من مستوى، فالبحث مُهم لكل إنسان وكل مجتمع، على المستوى الشخصى والمهنى والوطنى أو القومى، فكل منّا يمارس البحث العلمى بشكل أو بآخر قبل أى قرار يتم اتخاذه، من حيث جمع المعلومات الماضية والحالية وتحليلها والربط بينها وإعمال التفكير النقدى والوصول إلى نتائج، ومن ذلك مثلًا عند تحديد مسار الدراسة المناسب وتقييم ظروف العمل والاستثمار وتنفيذ مشروعات اقتصادية، وعند الارتباط وتكوين أسرة، وعند السفر والتخطيط لفترة الصيف وتنظيم رحلة..، حيث نفكر جيدًا فى أسباب القرار وخطواته والبيئة المحيطة والنتائج المتوقعة وسيناريوهات المستقبل.. وغيرها.

وعلى المستوى المهنى فإن البعض قد يتخصص فى مجال البحث العلمى، من خلال العمل فى المجال الأكاديمى، أو العمل فى مراكز بحثية، تكون مهمتها الإنتاج البحثى الفردى والجماعى، والنشر العلمى المحلى والدولى.

وتتركز الأهمية القومية للبحث العلمى حول دور الأبحاث، فى العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الطبيعية والتطبيقية على حد سواء، فى حل مشكلات نعانيها أو التعامل مع ظواهر سلبية تواجهنا، بهدف تحسين حياة الإنسان.

وللأسف فإن كثيرًا من الأبحاث العلمية تظل حبيسة الأدراج، تحتفظ بها الجامعات على أرفف المكتبات، وبعض الأبحاث يتم إعداده وإنجازه بغرض الترقية والحصول على درجات علمية، دون أن يستفيد المواطنون ودون أن تستفيد مؤسسات المجتمع من نتائج هذه الأبحاث.

من هنا فإننا نتطلع إلى تأكيد الارتباط الصحى والتلازم الطبيعى بين البحث العلمى من جهة وخدمة المجتمع من جهة أخرى، من حيث أهمية أن تتضمن الأبحاث العلمية تطبيقات عملية للمعلومات والمعارف، ومن المتعارف عليه أن الجامعات فى المحافظات المختلفة هى بمثابة بيت خبرة للمُحافظة فى مختلف المجالات والقطاعات، ومن المعروف أيضًا أن كل كلية وكل جامعة بها إدارة خاصة بشؤون البيئة وخدمة المجتمع.

أقترح أن تقوم أكاديمية البحث العلمى بإصدار نشرة علمية دورية، تتضمن نبذات مختصرة عن أحدث الأبحاث فى مختلف العلوم، ماذا قدمت وما أوجه الاستفادة منها، مع توفير مساحة مُناسبة لنشر نتائج تلك الأبحاث وعرضها بشكل مناسب فى الجرائد والمجلات والمواقع الصحفية الإلكترونية والمحطات الإذاعية والقنوات التليفزيونية، ما قد يُسهم فى نشر الثقافة العلمية بين الجمهور العام، فى مجالات التربية والاجتماع وعلم النفس والسياسة والاقتصاد والصحافة والإعلام والتاريخ والآثار..، والطب البشرى والطب البيطرى والهندسة والزراعة والصناعة، والتجارة والإدارة، والتكنولوجيا وتطبيقات الذكاء الاصطناعى.. وغيرها.

ومن بين المقترحات التى نعاود التذكير بها والتأكيد عليها باستمرار: إعداد قوائم بالموضوعات التى تم إنجازها فى كل حقل معرفى، وإعداد أجندات بحثية بالموضوعات التى تنتظر اهتمامًا من جانب الباحثين؛ تخصيص ميزانية مُعتبرة للبحث العلمى على مستوى الدولة بشكل عام، وفى كل مؤسسة بشكل خاص؛ توفير المزيد من المنح البحثية فى الداخل والخارج؛ تشجيع القطاع الخاص، وكذلك قطاع المجتمع المدنى، على دعم الباحثين والاستفادة من نتائج البحوث والمؤتمرات العلمية والسيمنارات وورش العمل، وهناك الكثير من التجارب الدولية فى هذا الشأن.

هذه الأفكار وغيرها من أجل مجتمع ناهض ومُتحضر، يقوم على دعائم العلم، ويحترم البحث العلمى، ويُقدّر الباحثين.
نقلا عن المصري اليوم