عادل نعمان
ولست أرى ما صرح به الأستاذ حمدى رزق فى مقاله على صفحات المصرى اليوم (فوضى الفتاوى أرحم من فتنة الفتاوى) عن زيادة عدد المفتيين وفق شروط محددة، حتى لو أدّت هذه الوفرة إلى الفوضى، مخافة الفتنة، إلا أن يكون البحث لم يهتد إلى بديل ثالث نقتدى به، أوربما لم تنبت الأرض فى بلادنا طرفا ثالثا معتدلا، فكان الخيار بين الرمضاء والنار، فأستجار بالرمضاء ، وله ألف عذر.
فوضى الفتوى يا سيدى منتهاها الفتنة ودربها السهل الممتنع، وأكاد أجزم بأن الأمة لن تضل أو تفتن إذا استيقظت من النوم ولم تجد شيخًا أو مؤسسة دينية تفتيها فى نومها ومأكلها ومشربها وختانها أو حتى مضاجعة نسائها، لكنها تفتن وتغتال فكريًا من سيل الفتاوى التى تنهمر عليها من كل حدب وصوب، فلا أحد سوانا يأكل أو يشرب أو يعمل أو يرحل أو يستوطن أو يضاجع إلا بفتوى، وغيرنا جميعهم أصحاء أشداء معافون فى نعيم وتقدم دونها، يعتمدون المنهح العلمى سبيلًا، ويحتمون بمظلة القانون ليس غير.
ولست أرى يا سيدى فى هذه المطالبات ومنح جهات متعددة سلطة الفتوى إلا تمكينًا للدولة الدينية، بل جرها جرا إلى ولاية الفقيه، وتغلغل سلطة رجال الدين فى حياة الناس، وإبعادهم تمامًا عن المنهج العلمى، وتقنين سطوة رجال الدين فى الشأن العام الذى يجب أن تحكمه قواعد علمية محددة، بل الأكثر أن السلطة الدينية سوف تتغول بقصد أو بدون يومًا على سلطة الدولة، أليست فتوى زواج الصغيرة دون التاسعة (وفقا لما أجمع عليه الفقهاء والمذاهب الأربعة) اعتداء صارخ على القانون وعلى سلطة الدولة، وخروج على قواعد الصحة الإنجابية التى تعتمد زواج البالغة الرشيدة، وأن الاحتماء بقواعد الفقهاء الشرعية قد أهلكت صحة الصغيرة واغتالت طفولتها، وحرمتها متعة التعليم، وأتلفت حياتها، وقصفت ثمارًا قبل أوانها.
ولسنا يا سيدى مجبرين على خيار أسوأ من الآخر (فما أسوأ من سيدى إلا ستى) ولسنا فى مجال استمالة طرف ورضاه لضرورة سياسية!! وهو الفشل بأم عينه، أو حين نفاضل بين الكريه والمكروه، بين الضرر والضراء ، دون أن تكون المفاضلة بين الخطأ والصواب، والمكسب والخسارة، والأفضل والأسوأ، وأن يكون الهدف مصلحة الأمة. ثم قل بالله عليك ما هى حكمة تعدد جهات الفتوى (الأزهر الشريف، ودار الإفتاء المصرية، ومجمع البحوث الإسلامية، ولجان محددة من وزارة الأوقاف) هذا الرسمى منهم فقط، وهل تظن أن الناس ستكتفى؟ لا وحياتك منهم يهرول إلى مشايخ القنوات الفضائية لفتاوى المتشددين، ومنهم من يسعى إلى فتاوى مستوردة من الوهابية، ومنهم من يسعى خلف مشايخ ودعاة غير مؤهلين. فإذا كانت الفتوى رأى نأخذ بها أولًا نأخذ بها، فما قولك فى تعدد الآراء والثقافات والأيدولوجيات والمذاهب والتربية والنشأة وهى الأصل فى كل هذا؟ وإياك أن تقول إن فى الاختلاف رحمة، لا يا سيدى فى اختلاف الرأى مهلكة واضطراب وتشتت وليس كما يزعمون، وليس المجال هنا الحديث عن مسلسل الفتاوى الغريبة التى أرقتنا من رضاعة الكبير ومضاجعة الوداع وحكم مضاجعة البهيمة وأكل لحم الجن وغيرها كثير من المضحكات المبكيات، فسوف يضاف إلى هذا العبث آلاف غيره على هذا النحو مع تعدد الثقافات والقناعات الخاصة إذا زاد العدد هذه الأضعاف المضاعفة.
يا سيدى أصحاب الفتوى منفصلون عن الواقع الذى نحياه، لا يعانون كما نعانى وإن أدركوه تجاهلوه، لا يملكون من الأمر شيئا إلا ما قد سلف، إما بالصبر كما صبر أولو العزم، أو الزهد كما زهد المجبرون عليه، أو ترقب ما تحمله الأقدار، دون حل أو مخرج، هم أسرى ماض سحيق لا يمت للحاضر بصلة، دون البحث عن فتوى حديثة تصل الناس بالحاضر وترفع عنهم معاناتهم . أليس توثيق الطلاق مطلبًا ضروريًا تطلبه الحاجة والمصلحة، وما زلنا نقف به على أعتاب الماضى بلا مجيب!! وكأن مهمة المفتى تثبيت ما هو قائم والتأكيد عليه حتى لو كان ضد مصالح الناس وحاجاتهم، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا هذه المناولة والمناوبة
ولست بمنكر أن التيار السلفى هو المهيمن على ساحات الفتوى، حتى أصبح المجتمع رائحته سلفية حتى الثمالة، وأدمن الفتاوى المتشددة والشاذة والغريبة، أليست فتوى عدم جواز الترحم على غير المسلم، وحرمة تهنئة غير المسلم، والدعوة إلى إغلاق محلات المسلمين فى أعيادهم، أمازالت قائمة تتربص بنا، وتحترق فيها أعصابنا ويفتن فيها الناس؟ وأزعم أن فتاوى المؤسسة الرسمية ومشايخ الدولة ليس لها سلطان على الناس، اللهم فى أمور العبادات، لكنها بعيدة كل البعد حين يكون الأمر مرتبطًا بالآخر وشؤون الحكم والأحكام، فهى فى أحضان السلفية وتحت ركابه.
فإذا ما أطلقنا يد الدعاة على هذا الهوى فإنها حتمًا تسقط فى أحضان السلفية، فيصبح الرأى فتوى، ووجهة النظر صوابا وحقا، والظن يقينا، والزعم حقيقة، والفوضى والفتنة فى واحد لا انفصام بينهما
(الدولة المدنية هى الحل).
نقلا عن المصرى اليوم