أحمد الجمال
يحمد لـ«المصرى اليوم» وللأستاذ الدكتور ماجد عثمان، أستاذ الاقتصاد، ورئيس المركز المصرى لبحوث الرأى العام «بصيرة»؛ الاهتمام بتقرير التنمية البشرية العالمى لعام ٢٠٢٥، وتيسير الاطلاع على مضمونه من خلال القراءة التى قدمها الدكتور عثمان ونشرت فى «المصرى اليوم» الاثنين الفائت ١٢ مايو.
وبالطبع، لست بصدد عرض لتلك القراءة؛ لأننى أولًا غير متخصص، وثانيًا لأنها متاحة لمن يريد، ولكننى، وبحكم عوامل كثيرة، توقفت أمام ما جاء عن حالة التعليم فى مصر، حيث يتراجع دليل التنمية البشرية نتيجة عدم المساواة بسبعة وثلاثين فى المائة، وهو ما يدعو للقول بأن حالة التعليم فى مصر وصلت إلى درجة مرتفعة من عدم تكافؤ الفرص، الأمر الذى يتطلب- حسب التقرير- مزيدًا من الجهد.
ولعل المفارقة التى أود الإشارة إليها، من خلال ما نشر؛ هى ما سجل عن زيادة الفجوة بين الدول الغنية وبين الأخرى الفقيرة، ومدى الارتباط أو التداخل بين ذلك وبين ارتفاع عدم تكافؤ الفرص التعليمية فى مصر.. وترجمته المباشرة هى استئثار الأغنياء والموسرين بما يحرم منه المستورون والفقراء!
وحتى لا يبدو الأمر تصيدًا لثغرة ما، فإن التقرير فيه عن مصر إيجابيات كثيرة تستحق الإشادة والتقدير لمن خططوا وعملوا على تحققها، غير أن مسألة التعليم مهمة للغاية، لأننى من جيل ضمن أجيال لم يكن لها أن تجد مكانًا تحت شمس العلم والثقافة والوعى والمستوى الاجتماعى اللائق، إلا بما نلناه من فرص متكافئة لتلقى العلم والانتظام فى المدارس والمعاهد والجامعات حتى التخرج، رغم أن الإمكانيات المادية لدى أسرنا لم تكن تتجاوز درجة الستر!.
ثم إن تلك الأجيال التى نالت تلك الفرصة العادلة هى التى على عاتقها جرت النقلة الكيفية فى كفاءة وقدرة ووعى الجندى المصرى فى ساحة القتال دفاعًا عن الوطن واستخلاصًا لجزء من ترابه ناله الاحتلال، وعلى عاتقها أيضًا كان البدء فى التوسع الصناعى الهائل، سواء بإنشاء الصناعات الحربية أو سلاسل المصانع التى انتشرت فى ربوع المحروسة، وأيضًا حملت على عاتقها المساهمة فى بناء السد العالى، أضخم وأهم مشروع هندسى عالمى فى القرن العشرين.
إضافة إلى أن تلك الأجيال حملت على عاتقها كذلك نشر التعليم فى المنطقة العربية، والمساهمة فى كل المشاريع التى أقدمت عليها دول عربية عديدة، خاصة فى العراق والخليج.. وغير ذلك فى مجالات القوة المصرية على مستوى السينما والمسرح والفن والثقافة بوجه عام.
وعليه، فإن مسألة التعليم ابتداء من القدرة على استيعاب كل طفل فى نظام تعليمى فى مدارس تتوافر فيها كل المقومات المعروفة لكى تكون صالحة للمهمة، وإعداد مدرسين مؤهلين وإداريين أكفاء ومناهج مناسبة علميًا ونفسيًا، وصولًا إلى توافر كل ذلك فى المراحل الإعدادية والثانوية ثم الجامعة.. مع التعليم وبغير انفصال يأتى البحث العلمى.. والتدريب العملى لتكون العملية التعليمية والبحثية والتدريبية من صميم ما نتحدث عن أنه يحتاج أو يتطلب مزيدًا من الجهد فى ردم فجوة عدم تكافؤ الفرص.
ثم إنه لا يخفى على أى مهتم بحاضر ومستقبل وطننا فى الأصعدة كافة؛ وجود مظاهر فجة لظاهرة عدم التكافؤ، منها وأخطرها تسرب الإفساد والفساد فى هذا القطاع الاستراتيجى الخطير، إذ تتدخل القدرة المالية للأسر فى تسهيل ارتكاب مثالب الغش وغياب الانضباط، وتحلل الالتزام الأخلاقى والخلل فى العملية التربوية، والعلاقة بين التلميذ وبين المدرس وإدارة المدرسة، بل وصل الأمر ليكون من الشائع «ضرب المدرسين» وفراغ الفصول من التلامذة، ويترتب على هذا أيضًا تخريج أجيال لم تتعلم ولم تنل تربية سليمة، وتجدها مستخفة بأى ضوابط أخلاقية سلوكية، ومن ثم غير معنية بقضايا الوطن وقدسية ترابه وعلمه ونشيده الوطنى.
ومن تلك المظاهر الخطيرة تعدد النظم التعليمية، فنجد مدارس إنجليزية وفرنسية وألمانية ويابانية وكندية وأمريكية وغيرها، إضافة لما كان موجودًا من قبل من تعليم أجنبى، ولكن الفرق هو أن مدارس كالجيزويت والمارونية.. وغيرها بقيت ملتزمة بالمناهج الوطنية، وإذا كان ثمة إضافات، فهى فى نطاق مزيد من العمق والتربية السلوكية الصارمة أخلاقيًا، لدرجة وصلت لأن يطلق على البعض أنه تربية وتعليم جيزويتى!
ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن غياب تكافؤ الفرص فوق أنه يحرم الوطن من آلاف العقول المتميزة ولكن فقر أهلها منعهم من استكمال تعليمهم بطريقة مناسبة إلا أنه كذلك وسّع كثيرًا من دوائر الأمية الهجائية والدينية والثقافية، ويضاعف أعداد الملايين الذين يتجهون للتعليم القائم على الحفظ والتلقين والاستظهار، وحتى فى هذا النوع ونتيجة لضخامة الأعداد وقلة الإمكانيات ومستوى المناهج والمدرسين، فإن خريجيه يتخرجون وكأنهم لم يتعلموا درسًا واحدًا فى الإملاء والنحو، فما البال ببقية العلوم؟
نحن أمام محنة حقيقية تمسك بخناق الأمة وتضع كل المنجزات فى البنية التحتية وغيرها فى مهب الريح.
نقلا عن المصرى اليوم