عون الحداد
لم تكن القاعة الكبرى في الفاتيكان أمس مجرّد مكانٍ للقاءٍ بروتوكولي بين الصحفيين وقداسة البابا لاون الرابع عشر. ففي ذروة التصفيق وتحت الأضواء المسلّطة، كانت هناك لحظة واحدة اختبرت يقظة البابا وحنكته الروحية؛ مشهدٌ واحدٌ استحقَّ التوقف عنده، والتأمل في صمته أكثر من أيّ تصريح قيل في اللقاء.
فخّ رُسِم بألوانٍ صارخة، ورُفِعَ في توقيتٍ محسوب، ظنّ البعض أنه سيُربك خطوات الحَبْر الأعظم، لكنّ ما حدث كان درسًا في الصمت، والعبور، والحكمة.
في لحظةٍ كثيفة بالرموز والدلالات، ظهر قداسة البابا لاون الرابع عشر وسط قاعة اللقاءات العامة في الفاتيكان، حيث سار قداسته في الممر بين الحضور، يُلقي البركة بيد، ويصافح بالأخرى، ويمنح وقته بكرمٍ لا تملكه إلا الأرواح الكبيرة؛ يُبارك الأطفال، ويوقّع التذكارات، ويتقبّل الهدايا والرموز، بوجهٍ تغمره الأبوّة والسلام.
لم يكن الحدث استثنائيًا في شكله، لكنه تحوّل إلى عنوانٍ بارز حين حاول أحد الحاضرين رفع علم المثليين في الجهة التي كان البابا يسير نحوها، في ما بدا كأنه محاولة مُفتعلة لإقحام الحَبْرِ الأعظم في مواجهة مباشرة مع رمزيةٍ لا تقبل التأويل.
كان المشهد محسوبًا، وكانت الحركة واضحة ومقصودة، وضعت البابا في موقفٍ لا يخلو من فخٍّ إعلامي أو رمزي.
لكن الرد البابوي جاء خارج كل الحسابات.
فبفطنة القادة، ووداعة الحمام، وحكمة الحيّات، لاحظ البابا العَلَمَ المرفوع في طريقه وكان يسير باتجاهه، يصافح ويبتسم. عندها، وفي لحظةٍ صامتة ولكنها مشبعة بالذكاء، غيّر مساره إلى الجهة الأخرى من الممر، مواصلًا مصافحاته وابتساماته، متجاوزًا العَلَمَ دون أن يقترب منه أو يلتفت إليه. وما إن ابتعد عن النقطة التي رُفع فيها العَلَم، حتى عاد مجددًا إلى الجهة الأولى، ليتابع مسيره كما بدأه، دون أن يُعطي للمشهد أي دلالة رمزية.
لم يتجاهل، لكنه أيضًا لم يسمح للصورة أن تتحوّل إلى موقف، أو للمشهد أن يتحوّل إلى منبر.
البابا لاون الرابع عشر كان يُدير لحظةً مُلغَّمة بثبات قائدٍ يعرف تمامًا إلى أين يقود كنيسته، وبأي لغةٍ يريد أن يوجّه رسالته.
صمتٌ حافظ فيه البابا على كرامة الكلمة، وهيبة الكرسي، وقداسة الرسالة.
بهذا التصرف البسيط شكلًا، العميق مضمونًا، وجّه البابا رسالةً واضحة دون أن ينطق بكلمة، وكأنه يقول: الكنيسة ليست مسرحًا للابتزاز الرمزي، ولا تُجَرُّ إلى المعارك الهامشية التي لا تخدم رسالتها.
قداسة البابا لم يصطدم، لم يُواجه، ولم يُعلّق، بل اختار أن يعبّر من خلال الفعل، لا من خلال ردة الفعل.
موقفٌ يختصر فلسفة هذا البابا: لا عداء، ولا استعراض، بل حكمة راعٍ يُدرك حساسية المواقف، وحدود الكلام، ووزن كل خطوة.
ما جرى في قاعة الفاتيكان اليوم لم يكن حادثةً عابرة، بل لحظةً تَواصَلَ فيها الإيمانُ مع الحكمة، والرمزُ مع الرسالة.
ولعلّ التاريخ سيذكرها كإحدى اللحظات التي عَبَرَتْ فيها الكنيسة فوقَ فخٍّ نُصِبَ لها، بصمتٍ يليق بالحق.
ع.أ.ح