كتب - محرر الاقباط متحدون 
أكد البطريرك يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، على ان الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية لا تستجدي مواطنة من أحد، بل هي من عراقة هذا الشرق.
 
جاء ذلك خلال كلمته في مؤتمر "المسيحيون في المشرق العربي وطموحات الوحدة والتنوير"، عمان 8 أيار 2025
"الوحدة والتنوع والتعددية في المشرق: بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس مثالاً" والتي ألقاها بالنيابة عنه الأسقف قيس صادق.
 
وجاء بنصها : صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال رئيس مجلس أمناء المعهد الملكي للدراسات الدينية، 
أصحابَ الغبطةِ والقداسةِ والفضيلةِ والسّماحةِ، 
أصحابَ السُّموِّ والدولةِ والمعاليْ والسعادةِ، أيُّها الحضورُ الكريمُ،غبّ تقديمِ الشكرِ الجزيلِ لصاحبِ الجلالةِ الهاشمية الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، صاحبِ الوصاية وخادمِ الأماكن المقدسة في القدس الشريف ولصاحبِ السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال، على الدّعوةِ الكريمةِ الموجَّهةِ لنا، يطيبُ لي أنْ أتوجّهَ إليكمْ لننقلَ إليكمْ، منْ هنا من عمَّانَ، وعبركم إلى العالمِ أجمعَ بعضاً من أفكارٍ وفيضاً من ثوابتَ وآمال علّها ترسمُ صورةً لما كنّا وما نحنُ وما سنبقى عليه نحنُ مسيحييّ هذا المشرق، الجزءَ الذي لا ينفصم من النسيجِ المشرقيّ المسيحيِّ الإسلاميِّ.
 
اخترت أن تكون مداخلتي في هذا المؤتمر تحت هذا العنوان نظراً لما عاشته وتعيشه كنيستي التي أتشرف بخدمتها في هذا المضمار. ولتسمح محبتكم لي أن أذكر بشيءٍ، وشيءٍ يسيرٍ فقط، من ماضيها ومن واقعها ومن مرتجاها لأضيء على عيشها الوحدة والتعددية والتنوع وعلى حفاظها على هويتها وأصالتها وعراقتها في آن معاً.
 
منذ مطلع القرن العشرين إلى يومنا هذا عاشت كنيسة أنطاكية الأرثوذكسية خبرة العيش الواحد مع كل الأطياف. نحن من كنيسة أقرب ما تكون المجسّد الأول للوحدة وللتنوع وللتعددية في هذا المشرق. نحن من كنيسةٍ تتخذ من الشرق عنواناً لها. نحن من كنيسةٍ سميت "رومية" لأنها كانت على معتقد الأمانة الحسنة أو الإيمان الذي ساد شعوب وأصقاع إمبراطورية الروم التي وجدت قبل الوجود العربي في هذه البلاد. نحن من كنيسةٍ تسمى "يونانية" لأن كتابها ومعظم آبائها نطقوا اليونانية في فترةٍ أولى. نحن من كنيسةٍ لها طابع "أنطاكي وسرياني" تلاقح مع الحضارة الهلنستية. نحن من كنيسةٍ تأذت إلى حد كبير من الحملات الغربية ورفضت وترفض إلى الآن ذاك التزييف الذي يعتبر المسيحيين من مخلفات حملاتٍ ما. نحن من كنيسةٍ صبغت العروبة قبل أن تصطبغ بها وتقدمها إلى العالم العربي فكراً ومنهج حياة. نحن من كنيسةٍ قدمت إلى الدنيا لفظة مسيحيين وأرقصتها على شفاه الأجيال. نحن من كنيسةٍ مدت جسور تواصلها غرباً وشرقاً وتوسلّت كل شيء لنشر بشارة الإنجيل. نحن من كنيسةٍ نطقت وتنطق لغة الضاد ونحتت في هذه اللغة وعمّدتها لتكون لغة عبادتها ولغة شعرائها وآبائها. نحن من كنيسةٍ كانت وستبقى مع المسيح في كل العهود وفي كل العصور لأن تلقفت إيمانها بالفطرة من فم رسل وتلاميذ المسيح. نحن من كنيسةٍ قلبها التاريخي أنطاكية ومقرها ومركزها الحالي دمشق. 
 
نحن من كنيسةٍ انتشرت في كل بقاع ديارها الأم من الجبل إلى السهل، من المدينة إلى القرية، من الساحل إلى الداخل. نحن من كنيسةٍ لا تعرف في حدود الدول حدوداً لتقسيماتها. ونحن من كنيسةٍ تمتد اليوم لتلامس قلوب أبنائها في القارات الخمس. نحن من كنيسةٍ جمعتها والهاشميين روابط التاريخ وحسن الجوار والوفاء ورسالة العروبة. وهنا يطيب لي أن أشير إلى البطريرك غريغوريوس الرابع حداد ابن قرية عبيه في جبل لبنان، ذاك الذي اعتاد البعض تحبباً أن يدعوه درزياً وهو الذي تربى على حسن الجيرة العلائق مع الآخر كائناً من كان.
 
 
نذكر غريغوريوس الرابع حداد بطريرك أنطاكية الذي أطعم بذهب صليبه المسلم والمسيحي. نذكر ذاك البطريرك الذي اعتاد مسلمو دمشق أن ينادوه محمد غريغوريوس. نذكر غريغوريوس الذي لم يفرق رغيف خبزه بين مسلم ومسيحي أيام الحرب الأولى. نذكره ونرى في شخصه بوتقةً تتجسد فيها الوحدة والتنوع والتعددية في حفاظٍ تام على الإيمان وعلى الأصالة في الشهادة الأنطاكية لإنجيل المسيح. كيف لا ومدرسة كنيسة أنطاكية اللاهوتيةِ آرسطيةٌ تؤمن أن الملموس والواقعي هو دليلها إلى المجرد والنظري وإلى اللامحسوسية الأفلاطونية التي التصقت بالمدرسة الاسكندرانية. نذكره ونذكر طيب العلاقة التي جمعته والهاشميين الذين تصدروا لواء الثورة العربية. نذكر يده التي امتدت قبل غيرها لتصافح الملك فيصل الأول سنة 1918 وآخر من صافحت يد فيصل في محطة الحجاز قبل المغادرة. نذكره ونذكر جوابه الشهير للتقصي الدولي الذي جاءنا تلك الأيام: نريد انتداباً وطنياً لا غريباً على أرضنا.
 
نذكره ونذكر يوم خرجت دمشق وبلاد الشام بمسلميها ومسيحييها لوداعه سنة 1928.
 
ونذكر أيضاً الياس الرابع معوض بطريرك أنطاكية وبطريرك العرب الذي عُجن مشرقياً من رحم هذا الشرق ورأى في فلسطين وفي القدس قضية الإنسانية جمعاء. نذكره ونذكر صوته الصادح في قمة لاهور الإسلامية سنة 1974. نذكره ونذكر رنة صوته التي ترن في آذاننا إلى اليوم وهو الذي قال يوماً: إن التراب الذي شرب دم شهداء هذا الوطن لم يسأل إذا كان هذا الدم مسيحياً أو مسلماً. نذكره ونشدد على دور كنيستنا الجامع الذي سعى إلى مد الجسور دائماً ورفض التقوقع والانعزال. نذكره ونذكر سلفه البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم وننوه بدور الكنيسة الأنطاكية في مد جسور التواصل واللقيا مع الجميع إبان الحرب اللبنانية. 
 
نذكر البطريرك إغناطيوس الذي قاد دفة هذه الكنيسة معتمداً لغة الانفتاح والحوار مع الجميع مقابل لغة المتاريس ولغة الإقصاء التي أطالت الحرب. ولعل أكبرَ دليلٍ على التنوع والتعددية عند أغناطيوس الرابع هزيم إنشاؤه جامعةَ البلمند في زمنٍ كانت فيه الحرب متقدة. وها هي جامعة البلمند اليوم تشرف على طرابلس وتحتضن المسلم كما المسيحي وتسهم في بث روح الحوار. وتعمل على بلورة فكرٍ مشرقي حضاري يقوم على تلاقح الحضارات لا على تضادها وتمترسها خلف حواجز الانعزال. 
 
يدنا مفتوحةٌ إلى الجميع ويدنا تلاقي الجميع. نمدها بكرامة ونعي ونعرف أننا لسنا أبناء اليوم ولا البارحة. ولسنا لنستجدي مواطنةً من أحد. نحن من عراقة هذا الشرق ومن رحابته. نحن كمسيحيين من زيتون هذا الشرق الذي يعطي زيت رحمته ويلامس به قلوب الجميع من كل الأطياف. 
 
 
هذا غيضٌ من فيض ما عاشته وتعيشه كنيستنا من وحدة وتنوع وتعددية في هذا الشرق الذي من أحجاره نحتت أحجار كنائسها وفي مغاورها عرفت خبرة نساكها ومن أزاهيره أعدت ميرون أسرارها من قمحه عجنت قربان تقدمتها وقدمتها شكراناً لرب السموات الذي ارتضانا مسلمين ومسيحيين في هذه الأرض نتلمس مرضاته بحسن تآخينا لا بغيره.
 
بوركت جهودكم وبوركتم جميعاً إخوتي الحاضرين. أدعو أن تتكلل أعمال هذا المؤتمر بالنجاح. بوركت جهودكم. وبوركت أرض الأردن ملقىً لكل فكر مستنيرٍ متسامحٍ وبوتقةً للتعددية والتنوع والوحدة وداراً ترفع إلى الله العلي القدوس الشكر والعرفان.