نيفين مسعد
فى فترتين متقاربتين وقعَت حادثتان مؤلمتان لاثنين من الرجال البسطاء الذين يتعاملون مع الحيوانات المفترسة. كانت الحادثة الأولى عندما التهم الأسد فى حديقة حيوان الفيوم العامل المسئول عنه وكان رجلًا مسنًّا رحمة الله عليه. أما الحادثة الثانية فكانت عندما التهم نمر أبيض فى سيرك طنطا ذراع عامل شاب كان يريد ربطه كالمعتاد بعد أن انتهت الفقرة التى يقوم بها. أثارت الحادثتان صخبًا واسعًا حول عشرات الأمور، منها ما يتعلّق بمدى صوابية فكرة ترويض حيوانات مفترسة اعتادت على حياة الغاب، وغذاء هذه الحيوانات ومدى كفايته لإشباعها، وسعر النمر الأبيض الذى عرفنا أنه من فصيلة نادرة، وبالتأكيد مدى كفاءة إجراءات تأمين العاملين. عن نفسى لا أحب السيرك عمومًا ولا الفقرات التى تؤديها الأسود والنمور خصوصًا، فمزاجى وهواى فى اتجاه آخر مختلف تمامًا. لكنى كمعظم الذين صدمتهم واقعتا الهجوم على اثنين من العاملين الغلابة فى الفيوم وطنطا رحت أتابع بعض تفاصيل الواقعتين على وسائل التواصل. ومن هذا الوقت أخذَت تظهر لى الأسود والنمور بشكل مكثّف جدًا، وفهمت أن خوارزميات الفيسبوك تشتغل على الموضوعات التى يتابعها المستخدمون وتبدأ فى إغراقهم بتنويعات عليها باعتبارها موضوعات مفضّلة لديهم. وهكذا ظهرت لى الأسود والنمور وهى تتصارع وتتجوّل وتتسلّق وتتزاوج وتتربّص وتفترس، لكن مؤخّرًا خطت هذه الخوارزميات خطوة أبعد فأخذَت تقدم لى نصائح حول كيفية التصّرف: مرة إذا ما حدث وواجهتُ نمرًا ومرة أخرى إذا ما واجهتُ أسدًا، ووجدتُ الموضوع طريفًا يستحق الكتابة فيه لعله يخفّف من توتّراتنا ويرخى الأعصاب المشدودة من حولنا فى كل مكان.
• • •
كانت هناك خمس نصائح لمواجهة كلٍ من الأسد والنمر، وهى نصائح تتشابه فى مجملها، فهى تطلب منّا الحفاظ على الثبات والسكينة، وتؤكّد على التراجع ببطء إلى الخلف ومن نفس الطريق التى جئنا منها وتحذرنا من إعطاء الحيوان ظهورنا لأن ذلك يحفزه على مهاجمتنا (ماشى الحال علمًا بأن العاملَين فى الفيوم وطنطا كانا يقفان وجهًا لوجه مع كلٍ من الأسد والنمر، ومثلهما كان مدرّب الأسود الشهير محمد الحلو). ومع ذلك وجدتُ بعض الاختلافات، ففى حالة النمر كانت النصيحة هى أن نتواصل معه بعيوننا بشكل قوى ومركّز حتى يتصوّر أننا شجعان وأننا لا نخافه ونخشاه…ممممم؟ هل نكذب إذن على النمر؟ وهل ننجح فى مراوغته بعيوننا؟ يقول الشاعر العظيم أحمد رامى "مادام تحب بتنكر ليه؟ ده اللى يحب يبان فى عينيه". ويقول أيضًا "الصبّ تفضحه عيونه". فهل معنى هذا أن الحب يظهر فى العين بينما أن الخوف لا يظهر فيها، وبالتالى تكون أمامنا فرصة محتملة لتضليل النمر وإيهامه بأننا لا نخاف منه؟ فى الحقيقة أنا من عشّاق أحمد رامى وأصدّقه جدًا لأنه الأخلص والأبلغ فى التعبير عن مشاعره خصوصًا حين يكتب لثومة. وهناك مقال بديع عن متعة اجتماع رامى وثومة مع انضمام القصبجى لصحبتهما فى مقال لطيف كتبه السفير ياسر علوى للشروق قبل سنوات. وأنا مثلى مثل رامى أؤمن أن العين هى مرآة القلب. أما فى حالة الأسد فإن النصيحة كانت هى أن نتجنّب النظر فى عينيه لأنه قد يفسّر الأمر على كونه يعتبر تحدّيا وربما استعدادا للهجوم عليه… ممم هل هذا معناه أن هناك اختلافًا بين طريقة مواجهتنا لكلٍ من النمر والأسد؟ يبدو هذا، لكن بشكلٍ عام يرتاح قلبى أكثر لطريقة مواجهة الأسد عن طريقة مواجهة النمر لأن هذه الـطريقة فى التعامل تتفّهم الضعف الإنساني. علمًا بأنه سوف يظّل علينا فى حالة مواجهة الأسد أن نمتثل لباقى النصيحة المذكورة فى مدوّنة السلوك، وتلك هى أن نُبقى الأسد فى دائرة نظرنا لكن من دون أن ننظر لا إلى عينيه ولا إلى أى جزء آخر فى جسده، بل ننظر للمشهد كله توتالة على حدّ تعبير عبد السلام النابلسى فى فيلم "يوم من عمري".. والله وحده المستعان.
• • •
مسألة توجيه النصائح لمواجهة المواقف شديدة الخطورة تفترض فينا أن نكون من أصحاب الرءوس الباردة والأعصاب الحديد، وهذا افتراض فيه قدر عال من حسن النيّة. وقبل أعوام من واقعتّى الأسد والنمر كنت قد قرأتُ أن هناك دعاءً يُتلى فى حالة ما إذا فاجأنا أسد وأنه سبقَت تجربته ونجح. يقول الدعاء: يا أبا الحارث (وهو من بين الأسماء الكثيرة التى نطلقها على الأسد)، إن كنتَ أُمِرت فينا بشئ فامضِ لما أُمِرتَ به، وإن لم تكن أُمِرت فينا بشئ فتنحّ عن طريقنا". وكان هذا الدعاء يسبّب لى إثارة عقلية فى حينه، أولًا لأنه يفترض أن الأسد سيتركنا نتلو الدعاء قبل أن يهجم علينا. وثانيًا لأنه يفترض أننا سنتحاور مع الأسد بهذا الدعاء وبالتالى فمن الوارد أن يعيد التفكير فى أمرنا. ورغم أن هذا الدعاء لم يرد ضمن نصائح مواجهة الأسد، لكنه يفتح الباب لفكرة الحوار مع الأسد، وهذا يزيد من فرصنا فى النجاة. إذ يمكن مثلًا أن ندّعى أننا من مواليد برج الأسد لعل هذا يجذب تعاطف الأسد، باعتبارنا من سكان نفس البرج. ومن باب الاستعداد لهذا الموقف العصيب رحت أبحث عن خصائص مواليد برج الأسد فوجدتُ من بينها الذكاء وقوة الشخصية والثقة بالنفس والحسّ الفكاهي. وعلى الرغم من أننى لا أتعامل مع موضوع الأبراج لكن للضرورة أحكام، فقد يفيدنى من حيث لا أدري، وسأحاول أن أتناسى أن الأسد يفترس أسدًا مثله عادى جدًا وبالتالى فليس هناك ما ينهاه عن افتراس مواليد برج الأسد، لكن الغريق يتعلّق بقشّة. ويمكن التنويع على سيناريو دعاء الأسد وسيناريو برج الأسد بأن نناشد الأسد أن يترفّق بنا طالما أنه قابل للمناقشة والاقتناع، وهناك المثل المعروف "عضّة أسد ولا نظرة حسد"، وبالتالى فقد نراهن على أمل أن يأكل الأسد نصف بطن كما يقولون.
• • •
أتمنى لجولاتى مع الأسود والنمور أن تنتهى سريعًا لأنها تحوّلت إلى كوابيس غير لطيفة، فكم فى الحياة من جمال يستحّق أن نهتّم به وأن يظهر لنا على وسائل التواصل.
نقلا عن الشروق