ماهر عزيز
العدل لا يملك هوية دينية، ولا تنحاز الحقيقة إلا لمنطقها الصارم، الذي لا يعترف باللون ولا الطائفة ولا المذهب. وقضيتنا اليوم — قضية الطفل والعجوز — ليست إلا نموذجًا فجًا لكيف تصنع الكذبة حين يغيب العقل، وتشتعل الفتنة حين تُدار العقول بالريموت، وتُحاك المؤامرات في الظلام لتُنزل الناس عن مقاعد الفهم، وتدفعهم إلى محرقة الكراهية.
إن القصة التي انفجرت على السوشيال ميديا كالنار في الهشيم، لم يكن لها أن تتماسك ساعة واحدة لو وُجد عاقل واحد يُفكر. قصة مهلهلة، متداعية الأركان، يفوح منها عبق الافتراء الركيك، وتهش فيها أدلة ملفقة تقفز فوق المنطق، وتخرق الواقع، وتتناقض مع أبسط قواعد الاحتمال.
فلو أن كل مسيحي دافع عن مسيحي لأنه مسيحي — كما زعم البعض — لكان في ذلك افتئاتًا مشينًا على مسيحيي مصر الذين علّموا التاريخ كيف يقف الإنسان إلى جوار الحق ولو كان ضده، وكيف تكون الوطنية رباطًا أمتن من سلاسل الطائفية. حين حاول المستعمر الإنجليزي أن يستقوي بمسيحيي مصر ضد إخوانهم المسلمين، فاجأه هؤلاء بوحدة وطنية أبهرت العالم، وانتصروا للوطن لا للطائفة.
اليوم يُراد أن يُقال إن المسيحيين يدافعون عن رجل مسن لأن دينه دينهم. وأقولها يقينًا، لا يدافع عنه من يعرف الحق لأنه مسيحي، بل لأن القصة كاذبة، والأكذوبة مفضوحة، والدسيسة مكشوفة. فيا للعجب، متهم في الثمانين، مريض سكري منذ أربعين عامًا، أُجريت له عملية قلب مفتوح، وعلى شرايينه خمسة صمامات معدنية، يمارس فعلًا جنسيا لا يقدر عليه في ريعان شبابه! أهذا يُصدقه عاقل؟!
ولماذا الآن؟ ولماذا بعد عام كامل؟ ولماذا لم تُحرَّك الدعوى إلا في لحظة غريبة عجيبة، اتحد فيها الأمن مع “إخوان الشياطين” — أعداؤه الألداء — لا لشيء إلا لإشعال نار الطائفية، وتوجيه الغضب الشعبي عن فشل السياسات الاقتصادية، وخراب التعليم، وانهيار العملة، وسقوط الدولة في مستنقع الديون والفساد، إلى فتنة دينية يسهل معها حرق مدارس الراهبات والفرنسيسكان والجيزويت، فتُسلّم على طبق من ذهب لمنظومة التعليم المتأسلم، التي ظلت تسعى منذ مبارك حتى الآن للهيمنة على عقل مصر.
الحقيقة الساطعة كالشمس، أن القضية لم تحدث، والجريمة لم تقع. وما جرى ليس سوى مهزلة أمنية خبيثة، يشارك فيها كتائب إلكترونية مأجورة، تضخ الأكاذيب حول رشوة من ثلاثين كيلو ذهب، وتلفق الروايات عن رجل شاذ اكتشفوه فجأة في أرذل العمر، رغم أنه قضى ثلاثين عامًا في نفس المدرسة، ولم يُسجَّل عليه فعل واحد يُدينُه.
قضية الطفل والعجوز ليست جريمة اعتداء بقدر ما هي جريمة ضد العقل، وضد ضمير مصر. وهي مؤامرة متقنة لإشعال فتنة دينية مقصودة، وإحراق سمعة المدارس المسيحية، تمهيدًا لوضعها تحت سطوة تيار متشدد يُفني ما تبقى من تعليم مستنير.
إن العدل يقتضي ألا يُنسب الفعل إلى دين، وألا يُستدعى الإسلام كلما أخطأ مسلم، ولا تُدان المسيحية كلما أخطأ مسيحي. ألم يغتصب شيخ طفلًا في رمضان بمراحيض مسجد؟! ألم يُقتل قاصر على يد شيخ وهو يغتصبها؟! ولم يخرج أحد يحمّل الإسلام أوزار هؤلاء. فلماذا إذن يُراد تحميل المسيحية ذنب رجل؟!
الحقيقة أن مصر تُبتلى اليوم بانهيار أخلاقي عام، تُغتصب فيه الطفولة في كل مكان، وتُباع فيه الضمائر، وتُدار فيه الأزمات بعقلية أمنية عتيقة، تلعب على وتر الطائفية كلما تأزمت الأحوال.
إن قضيتي ليست الدفاع عن شخص، ولا عن مدرسة، ولا عن طائفة. قضيتي هي الدفاع عن الحق، وعن العقل، وعن وطن يُراد له أن يُحرق في أتون الجهل والطائفية.
وختامًا أقولها صريحة: لو سار النقض في طريق نزيه، بعيدًا عن ضغوط السياسة، وانحرافات الإعلام، وأكاذيب كتائب الخراب، ستنكشف الحقيقة جلية… وإن غدًا لناظره قريب