(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)
مقدّمة
إنّه لأمر بديهيّ أن نفهم جميعنا لماذا "الرّابع عشر"؟ بالطّبع، لأنّه سبقه ثلاثة عشر بابا بهذا الاسم. فكما هو معروفٌ وواضح جدًّا، اسم "لاون" في قائمة باباوات الكنيسة الكاثوليكيّة، قد تكرّر من قَبل ثلاث عشر مرّة.ولكنّ السّؤال الذي يُطرَح: لماذا "لاون"؟
انطلاقًا من أنّ البابا الجديد للكنيسة الكاثوليكيّة، البابا"لاون الرّابع عشر"(الكاردينال "روبرت فرنسيس بريفوست")،الأوّل من أمريكا الشّماليّة، والثّاني على التّوالي من القارة الأمريكيّة (بعدالبابا الأرجنتينيّ فرنسيس)، لم يشرح هو ذاته، حتي الآن، لماذا اختار هذا الاسم بعينه، فكلّ ما يُقال حاليًّا ما هو إلّا تكهُّن وتخمين.وثمّة ثلاثةُ احتمالاتٍ مطروحة من قِبل من لهم درايةبشؤون الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكيّة؛ وهي التّالية:
الاحتمال الأوّل، وهو نوعًا ما رومانسيّ،يعود الاسم إلى الأخ "ليون" (لاون)، أحد أقرب رُفاق القدّيس فرنسيس الأسيزيّ؛ لقد كان صديقه المقرّب، وظلّ معه حتى وفاته. وكان "القدّيس فرنسيس" بدوره، الشّخصيّة المحوريّة في حَبريّة البابا الأرجنتينيّ، وهو مصدر إلهام اسمه ("فرنسيس")، لأوّل مرّة في التّاريخ. وإن كان هذا صحيحًا، فهذا يشير إلى قُرب البابا الجديد ("لاون الرّابع عشر") لسلفه (البابا فرنسيس).
الاحتمال الثّاني،وهو واقعيّ، والأرجح، والأقرب إلى الحقيقة، يكمن في ارتباط البابا الجديد بالبابا لاون الثّالث عشر (1978-1903)، آخر بابا قد اختار هذا الاسم قبل البابا المنتخب، وأوّل بابا يتنيّح في القرن العشرين. وقد كان من أكثر الباباوات تأثيرًا في التّاريخ، ولا سيّما في القرن التّاسع عشر.فأغلب المختصّين يميلون إلى هذا الاحتمال؛وإن صحّ، فهو يعني أنّ الباباالجديد يريد أن يسيرعلى خُطى البابا لاون الثّالث عشر. فمن جهة،كانت حقبة لاون الثّالث عشر هي الأخرى متّسمة بالتّقلّبات والتّغيّرات. ومن جهة أُخرى، كان البابا لاون الثّالث عشر ممَّن ركّز على تعليم الكنيسة الاجتماعيّ، الخاصّ بكرامة الإنسان وكلّ إنسان، وحقوق العمّال،والعدالة الاقتصاديّة، والسّلام في العالم. وقد سطرّ لنا ما يُعرف اليوم بأوّل وثيقة من وثائق تعليم الكنيسة الاجتماعيّ، بعنوان "أمور-شؤون جديدة". كما عمل البابا لاون الثّالث عشر على تشجيع الحوار مع الدول الحديثة، وتعزيز التّعليم والعلم والفكر الفلسفيّ، وخاصّة من خلال التّوماويّة الجديدة. وربّما يكون البابا الجديد("لاون الرّابع عشر") يشير إلى نيّته في إحياء تلك المواقف تجاه القضايا الاجتماعيّة، وتعزيز موقف الانفتاح، دون الانفصال عن التّقاليد.
التّفسير الأقلّ احتمالًا، وبالنّسبة لي غير محبّذ، وإن كان ممكنًا، هو ارتباط اسم البابا الجديدباسم القدّيس لاون الأوّل أو الكبير (440-461). وهو أحد الباباوات القلائل في التّاريخ الذين حصلوا على لقب"الكبير"، وأحد أوائل ملافنة (معلّمين) الكنيسة. وكانيتمتّع بشخصيّة عظيمةومحوريّة في فترة من الاضطرابات العظيمة التي مرّت بها المسيحيّة، مع تراجع الإمبراطوريّة الرّومانيّة والتّهديدات المستمرّة لغزوات البرابرة.ومن أبرز موافقه المحفورة في ذاكرة التّاريخ:1) ما قام به في عام 452 ميلاديّ، عندما واجه شخصيًّا "أتيلا"، وأقنعه بعدم غزو مدينة "روما؛ 2) دورهالحاسم في مجمع "خلقيدونيا"، حيث دافع بقوةٍ وحُحج دامغة عن الطّبيعتين (الإلهيّة والبشريّة) لشخص المسيح الواحد.
خلاصةٌ
بناءً على هذا، وبتبنّي الاحتمال الثّاني، نستنبط أنّ البابا لاون الرّابع عشر يريد اتباع مباديء وتوجُّهات البابا لاون الثّالث عشر في ما يخصّ بعض الأمور الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، وهو على درايةٍ تامّة بأنّنا في حقبة مختلفة في أوجه عدّة عمّا سبقها من حقبات. ومن المستبعد جدًّا–على الأقلّ بالنّسبة لي–أن يكون اسم البابا الجديديعود إلى البابا "لاون الكبير"،بدون إنكار عظمة هذا البابا الذي لمعت حبريته أثناء النّقاشات الكريستولوجيّة. لكنّني أعتقد أنّ اهتمامات البابا الجديد ("لاون الرّابع عشر")هي مواصلة الحوار المسكونيّ، والحوار بين الأديان، والحوار مع العالم بأسره، ومع ثقافاته، والسّعي إلى السّلام العادل والشّامل، أكثر منه إظهار الفروق الفكريّة، أو إبراز "استقامة التّعليم".