حمدى رزق
كفانى الدكتور «محمد عبد الرحمن الضويني» وكيل الأزهر الشريف، مؤنة رفض مشروع القانون المقدم من الحكومة بتنظيم إصدار الفتوى الشرعية.
وكيل المشيخة الأزهرية رفض القانون (جملة)، بتوجيه من «هيئة كبار علماء الأزهر»، أعلى مرجعية دينية تابعة للأزهر الشريف، وغاب عن مداولات لجنة الشئون الدينية والأوقاف بمجلس النواب فى يومها الثانى بعد أن سجل رفضه حضوريًا فى اليوم الأول..
منطوق رفض هيئة كبار العلماء مؤداه الحق الحصرى فى الفتوى، وحقها فى أن تهب لمن تشاء حق الفتوى بإذن وسماح منها، باعتبارها المرجعية العظمى والولاية الكبرى، ولا تعقيب عليها.. ومنطوق رفضنا، رفض هذا الحق الحصرى، ما أسميناه ومُسجَّل فى المناقشات احتكار الفتوى، والتغول على فضيلة الاختلاف، والشخصانية التى بُنيت عليها آلية تسمية المفتين الجدد..
سوء الظنِّ ليس دائمًا من حُسن الفِطن، وأحسنا الظن بمشروع القانون، وكتبنا فى «المصرى اليوم» قبلًا محبذين صدوره لتنظيم الفتوى وليس لاحتكار الفتوى، وعنوانا الأثير دومًا قول الإمام الشافعى «رأيى صواب يحتمل الخطأ.. ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب»..
لم نضمر رفضًا للرفض، ولم نبتدر مشروع القانون رفضًا كما فعل وكيل المشيخة، الثابت أن وراء الأكمة ما وراءها، وهناك من يصادر على صدور القانون متشبثًا بالحق الحصرى فى الفتوى، لا شريك له حتى ولو كانت وزارة الأوقاف!!
وعليه، وبعد تمام المناقشات، والحوار المجتمعى، والعصف الذهنى الذى أداره بحكمة وأريحية الدكتور «على جمعة» رئيس لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب، وبحضور الدكتور أسامة الأزهرى وزير الأوقاف، نقولها ورزقنا على الله، إن «فوضى الفتاوى» ومنكراتها أهون علينا من «فتنة الفتاوى» وسلاحها هذا القانون.
لقد واجه الشعب «فوضى الفتاوى» بملاحقة منكراتها حتى ألزم أصحابها الصمت والخجل من أنفسهم، فلم يعد هناك صوت لأصحاب فتاوى رضاع الكبير أو نكاح البهيمة أو مضاجعة الزوجة المتوفاة أو ضرب الزوجة لتأديبها أو زواج الأطفال أو ختان الإناث أو تحريم تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم.
أبدًا ليس بمحاكماتهم القضائية وسجنهم، وإنما بمقارعتهم الحجة الشعبية الحضارية، فلسنا فى حاجة إلى إشغال القضاء والسجون بمن يستطيع الشعب التعامل معه، وإلزامه أن يقول المعروف بالمعروف، وليس بسلاح القانون.
أما «فتنة الفتاوى» فلا طاقة لنا بها، لأن الفتنة كما قال تعالى: «أشد من القتل» (البقرة: 191)، و«أكبر من القتل» (البقرة: 217).
وفتنة الفتاوى تكون بالصراع على احتكارها فى مواجهة الآخر، مع أن الفتوى هى الرأى الذى يراه المفتى بعقله وقلبه وليس بوحى من السماء، فهى صواب يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب، كما أنها بإجماع علماء المسلمين لا تلزم إلا صاحبها، فكيف يتصارع على احتكارها أحد إلا أن يجعلها فتنة فى المجتمع.
هل نسينا القانون (رقم 118 لسنة 1976م) بشأن «نظام الطرق الصوفية» لعدد (67) طريقة، والذى ينص فى مادته رقم (28) على أن: «يكون لكل طريقة من الطرق الصوفية شيخ، وشيخ الطريقة هو الرئيس الروحى والإدارى لها»، فماذا لو صدر قانون بتحديد مجالس ولجان الإفتاء فى مواجهتهم إلا أن يكون ذلك فتنة لشيوخ الطرق الصوفية البالغ عددهم (67) شيخًا!
فضلًا عن الفتنة التى يشعلها مع أساتذة وشيوخ وزملاء تلك المجالس واللجان الإفتائية المحرومون من تلك العضوية، بل والمُعرّضون لعقوبة السجن والغرامة إن أفتوا بغير فتاوى تلامذتهم أو زملائهم أعضاء اللجان الإفتائية.
إن المصريين فى غنى عن قانون يفتنهم ويشعل الأحقاد بين زملاء المهنة فى الخطاب الدينى، والناس أحوج إلى من يفقههم فى دينهم بالصدق والأمانة العلمية القائمة على التعددية برحمة الله لخلقه، كما قال عمر بن عبد العزيز: «ما وددت أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا ما كانت رحمة»، وقد رفض الإمام مالك عرض تعميم كتابه «الموطأ» وإلزام المسلمين به الذى اقترحه أبو جعفر المنصور، وقال له: «يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من اختلاف الناس وغيرهم، وإن ردّهم عما اعتقدوه تشديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم»، فقال أبو جعفر المنصور للإمام مالك: «لعمرى! لو طاوعتنى على ذلك لأمرت به»، فرفض الإمام مالك، واختار التوسعة على الناس بالتعددية الفقهية، وليس بتجنيدهم إجباريًا عند صانع الفتنة باحتكار الفتوى التى احتكرها فرعون بقوله لأتباعه: «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» (غافر: 29).
لقد احتاج المصريون بعد (ثورة 30 يونيو 2013م)، إلى إمام مسجد مؤهل علميًا يحميهم من الإسلام السياسى المستغل، فأغناهم بذلك القانون (رقم 51 لسنة 2014م) بشأن «تنظيم ممارسة الخطابة والدروس الدينية فى المساجد وما فى حكمها»، والذى اشترط التخصص من الأزهر وما فى حكمه فى المادتين الثانية والثالثة منه.
ويحتاج المصريون اليوم إلى قانون «ضوابط الفتوى» وليس إلى قانون «ولاية الإفتاء أو ولاية الفقيه».
فالولاية - وهى السيادة - بحكم الدستور للشعب وحده (مادة: 4)، ويمارسها بمؤسساته الرئاسية والبرلمانية والقضائية والتنفيذية، وسائر المؤسسات خدمية وليست سلطوية، وعلى الأزهر بصفته الدستورية «المرجع الأساسى فى العلوم الدينية» (مادة: 7) أن يضع ضوابط الفتوى التى يلتزم بها كل من يتصدى للإفتاء دون اصطفاء شخصانى، فيشترط مثلًا فى قبول الفتوى:
- أن تكون مستندة إلى أدلة مقنعة من الكتاب أو السنة.
- أن تحقق مصلحة معتبرة وظاهرة.
- أن لا تخالف نصًا دستوريًا أو قانونيًا؛ لأن الدستور حاكم بسيادة القانون، والقاعدة الفقهية تنص على أن «حكم الحاكم يقطع الخلاف فى المسألة».
- أن تكون بمرجعية فقهية من المذاهب الفقهية التى يدرسها الأزهر
- أن يكون صاحب الفتوى متخصصًا، وحاصلًا على شهادة الليسانس أو الماجستير أو الدكتوراه فى الفقه أو الفقه المقارن أو أصول الفقه، وله عددٌ معين من الأبحاث المتخصصة.
هكذا تكون شروط الفتوى موضوعية لتصلح أن تكون قانونًا لأن طبيعة القانون أن يكون «قاعدة عامة مجردة»، وليس شخصانيًا بتعيين المفتين واصطفائهم، فلا يقال إن أعضاء لجان كذا لهم حق الفتوى دون غيرهم، وإلّا كان ذلك خارجًا عن الحقيقة القانونية، واستنساخًا لولاية الفقيه الشيعية.
إن كلمة الحق فريضة دينية وأمانة فطرية، لقوله تعالى «وأقيموا الشهادة لله» (الطلاق: 2)، وقوله سبحانه: «اتقوا الله وكونوا مع الصادقين» (التوبة: 119).
وتقوى الله التى تلزمنا الأمانة والصدق هى الإعلان عن إمكاننا التعامل مع «فوضى الفتاوى» بالتناصح، وعجزنا عن التعامل مع «فتنة الفتاوى» بغير انتهاك للحرمات، ومشروع قانون تنظيم الفتوى المستتر لتمرير ولاية الإفتاء أو ولاية الفقيه فتنة.
وإذا كان هناك من أعلن رفضه لهذا المشروع طمعًا فى احتكار الفتوى خالصة لنفسه - دون غيره - فإن الأحرار من أبناء هذا الوطن يرفضونه لخروجه عن الموضوعية إلى الشخصانية، فهو لم يعالج ضوابط الفتوى من قيامها على دليل صحيح، أو تحقيق مصلحة معتبرة، أو صدورها من صاحب مؤهلات دراسية معينة كقاعدة عامة مجردة، كما هو الشأن القانونى السليم، ولكنه بكل أسف اتجه إلى الشخصانية باعتماد فتوى أعضاء لجان أو مجالس معينة، فهو قانون «ولاية الفقيه» وليس قانون «تنظيم الفتوى».
والمعروف أن «ولاية الفقيه» ثقافة شيعية غير مقبولة فى مجتمعنا المصرى السنى، الذى اعتاد التعددية الفقهية، والتّعايش السلمى مع الاختلاف الفقهى، حتى شاع قولهم «اختلافهم رحمة».
ومن هنا يكون إلزام المصريين بلجان إفتائية معينة بأشخاصها نكسة حضارية بعد أن عاشوا (1400 سنة) فى ظل سعة التعددية الفقهية منذ معرفتهم الإسلام فى عهد عمر بن الخطاب (سنة 641م الموافق 20 هجرية) حتى يومنا هذا،
فضلًا عن الفتنة التى تحدث بسبب عدم تكافؤ الفرص بالتمييز الانتقائى من بين المتخصصين والمتخصصات فى الدراسات الدينية الإسلامية فى جامعة الأزهر وسائر الجامعات المصرية، بما يشعل نار الأحقاد وشرور المحسوبية عند الانتقاء من بين متساوى المراتب العلمية، كما يشيع اليأس والخوف عند غير المحظوظين بالاصطفاء الإفتائى أن تطالهم عقوبة السجن والغرامة بتهمة الإفتاء فى دين الله الذى يؤمنون به بغير ترخيص.
ناهيك عن غزو فساد الشللية والرشوة بين من يراهم المجتمع أصحاب الفضيلة؛ سعيًا إلى الانضمام لعضوية لجنة إفتائية تفتح لصاحبها باب رزق فى الإعلام، أو تمنحه وجاهة باعتماد فتواه رسميًا، فيسعى إليه سماسرة «الإسلام السياسي» بالإغراء المالى لشراء ولائه بزعم نصرة الدين وإقامة شرع الله، فيكون حربًا على الدولة الوطنية التى تجمع المصريين على كلمة سواء.
هذا، مع ما يسببه مشروع قانون تنظيم الفتوى الانتقائى الشخصانى من حرمان عموم الشعب المصرى من حقوقهم الدستورية التى تجعل «حرية الاعتقاد مطلقة» (مادة: 64)، و«حرية الفكر والرأى مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر» (مادة: 65).
لقد قال الرئيس «عبد الفتاح السيسي» لأئمة المساجد فى سياق تجديد الخطاب الدينى بما يليق بسعة رحمة الله بخلقه: «كونوا دعاة الحرية»، فى حفل تخريج الدورة الثانية لتأهيل أئمة وزارة الأوقاف من الأكاديمية العسكرية المصرية (يوم الثلاثاء، 22 أبريل 2025م)، ولا يخفى على شريف علم أصحاب الفضيلة وجوب طاعة ولى الأمر، خاصة إذا وافق قوله نصوص القرآن والسنة التى تنهى عن الإكراه فى الدين، وتأمر بتعميم فقه الدين للجميع، وتمنع احتكار الفتوى التى جعلها الرسول (صلى الله عليه وسلم) حقًا لكل أحد على نفسه بقوله: «استفت نفسك، استفت قلبك، وإن أفتاك المفتون، وإن أفتاك الناس وأفتوك» (أخرجه أحمد من حديثى وابصة وأبى ثعلبة الخشني).
والله من وراء القصد، ألا قد بلّغت اللهم فاشهد.
نقلا عن المصرى اليوم