القمص يوحنا نصيف
    + تميّزت شخصيّة مار مرقس بصفات فريدة ورائعة، وسأقف في هذا المقال عند واحدة من أبرز صفاته وهي روحه المسكونيّة..

    + مار مرقس لم يكُن منحصرًا في خدمة بلدة معيّنة أو حتّى في التواصُل مع ثقافة معيّنة.. بل كان متميِّزًا باتّساع أُفُقِهِ ورؤيته لكلّ العالم كحقل واحد كبير، يريد أن يزرع في كلّ بُقعة منه بذار الملكوت.. واثقًا أنّ كلّ البشريّة مدعوّة للتمتّع بالخلاص؛ خلال الإيمان بالمسيح والدخول في عضويّة ملكوته بالمعموديّة.. وأنّ الله عندما يفتح له آفاقًا للتبشير في أي مكان، فهو يدعوه للعمل الكرازي بلا حدود!

    + لقد خَدَمَ في كافّة قارّات العالم القديم، آسيا وأفريقيا وأوروبّا، والبلدان التي ذَكَرَ التاريخ أنّه كرز فيها بخلاص المسيح تتنوّع من لبنان وأنطاكية، إلى قبرص وآسيا الصغرى، إلى جُنوه وأكويلا وفينيسيا وروما بإيطاليا، بالإضافة إلى مصر والقيروان بأفريقيا.. فهو بالحقيقة كارز مسكوني، يخدم طول الوقت، وفي أي مكان يحتاجه فيه الرب!

    + يبدو لي أنّ مار مرقس كان يضع خريطة العالم بالكامل في ذهنه، ويطلب خلاص كلّ نفس.. ولهذا عندما كتب إنجيله المُرَكَّز الجميل، حرص على تسجيل كلام السيّد المسيح قبل الصعود: "اذهبوا للعالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها" (مر16: 15). ونفّذ هو هذه الوصيّة عمليًّا، مع الوضع في الاعتبار صعوبة الحركة والمواصلات في ذلك الزمان.

    + كان مار مرقس أيضًا يتمتّع بقدر هائل من المرونة، لكي يتوافق مع مختلف الظروف، ويتعامل بنجاح مع كافّة أنواع الشخصيّات.. وساعدته على ذلك ثقافته الواسعة، وإجادته لثلاث لغات (العبريّة واليونانيّة واللاتينيّة).. فأسَّس كنائسَ في بلاد عديدة، وكان محبوبًا في كلّ تلك البلاد، حتّى أنّهم جميعًا يفتخرون بأنّ مار مرقس هو كاروزهم ومؤسِّس كنيستهم!

    + من أهمّ أسرار نجاح كرازة مار مرقس المسكونيّة، أنّه كان يحمل في داخله قوّة القيامة، مع خبرات شخصيّة عميقة لعمل الله القويّ معه.. لذلك مهما كانت الإمكانيّات المُتاحة له قليلة أو شِبه معدومة، فقد كان يؤمن بعمل الله المُعجزي وإمكانيّاته اللانهائيّة في تغيير القلوب وتنمية البذار.. وهذا ما ظهر في كرازته بمصر، التي بدت أنّها بلا إمكانيّات تقريبًا.. ولكن بقوّة القيامة التي كان يحملها مار مرقس في داخله، انفتحت الأبواب وتأسّست الكنيسة ونَمَت في النعمة، وتكاثر عدد المؤمنين بشكل هائل، حتى صارت مصر بالكامل في القرن الرابع تدين بالمسيحيّة!

    + هذه الثمار الوفيرة في كلّ المسكونة هي نتيجة بذار حيّة زرعها مار مرقس.. بذار مملوءة بقوة القيامة والحياة الجديدة.. قوّة الكلمة الحيّة التي كرز بها وسجّلها في إنجيله، وقوّة المذبح الذي تُرفَع عليه الذبيحة الإلهيّة التي تُحيي المؤمنين في كلّ قدّاس!

    + ليبارك الله كنيسته القبطيّة الأُرثوذكسيّة، لكي تكون دائمًا منارةً في وسط العالم، كارزة بحُبّ يسوع وخلاصه.. بصلاة مار مرقس الكاروز العظيم. آمين.
القمص يوحنا نصيف