القمّص يوحنا نصيف

تابع ثالثًا: أمراض تتعلّق بالكبرياء والمجد الباطل:
    + تحدّثنا في المقال السابق عن عدّة أمور تتسبّب في دخول مرض الكبرياء إلى الإكليروس، منها: تضَخُّم الذَات نتيجة الوضع القيادي - قبول المديح والتمجيد من الناس بل وأحيانًا السعي له - عدم الانتباه والاعتراف بضعف الطبيعة البشريّة وبالتالي رفض المراجعة والتصحيح - حُبّ السيطرة - الانفراد بالتعليم - الاستقواء بالشعبيّة والتي تقود أحيانًا للمنافسات والتحزُّب - الفساد المالي بلا رقيب.. وفي هذا المقال نستكمل مناقشة أسباب استشراء مرض الكبرياء القاتل بين الإكليروس، وكيفيّة مواجهته بكلّ جدّيّة. 
 
    + من أخطر الأوضاع التي تجعل مرض الكبرياء يتملّك على الإكليروس هو احتكار السُّلطة وإساءة استخدامها؛ فمعروفٌ أنّ الإكليروس يكون لديهم قدرٌ من السُّلطَة، وهذه بالطبع موهِبة جميلة وهامّة يمنحها الله من أجل بنيان الكنيسة، ولكن للأسف قد يحتكر بعض الإكليروس السُّلطة تمامًا، ويظنّون أنّهم وحدهم المنوط بهم القيادة، فينفردون برأيهم ويُحِبّون السيطرة على الآخَرين.. بينما الحقيقة أنّ هذا الوضع ليس في مصلحة الكنيسة؛ إذ فيه تهدير للطاقات والمواهب المتنوّعة الموجودة فيها، كما شرح القدّيس بولس الرسول "لَوْ كَانَ كُلُّ الْجَسَدِ عَيْنًا، فَأَيْنَ السَّمْعُ؟ لَوْ كَانَ الْكُلُّ سَمْعًا، فَأَيْنَ الشَّمُّ؟" (1كو12: 17)، "لاَ تَقْدِرُ الْعَيْنُ أَن تَقُولَ لِلْيَدِ: لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكِ! أَوِ الرَّأْسُ أَيْضًا لِلرِّجْلَيْنِ: لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمَا!" (1كو12: 21).
 
    + ربّما أيضًا يسيء بعض الإكليروس استخدام السُّلطة، فتتحوّل إلى تَعَالٍ على الناس، وأحيانًا تَصِل إلى البطش بهم، وتشجيع التحزُّب والإساءة والتشهير والطعن في أيّ شخص لا يدور في فَلَكِ مثل هؤلاء القادة المساكين!
 
    + بخلاف موهبة غفران الخطايا الخاصّة بالكهنوت التي وضعها الله في الكنيسة، من أجل مساعدة الناس على دخول الملكوت بإزالة حواجز الخطيّة من حياتهم واستعادة الشركة مع الله؛ فإنّ الله أيضًا أعطى للجميع السلطان أن يصيروا أولاده (يو1: 12)، وأن يكونوا أعضاء جسده وهيكلاً لروحه (أف2: 20-22، أف5: 30)، ووزّع المواهِب على كلّ أعضاء الجسد (1كو12)، وأعطانا جميعًا السلطان أن ندوس الحيّات والعقارب وكلّ قوّة العدو (لو10: 19).. من أجل هذا، فإنّه ليس من صالح الكنيسة أبدًا أن يستأثِر بعض أعضاء الجسد بالتحَكُّم في كلّ شيء دون الآخَرين.
 
    + إنّنا نرى في الكنيسة الأولى مثالاً جميلاً لهذا، إذ حدث في مجمع أورشليم أنّ آباءنا الرسل أعطوا الفرصة لمشاركة كلّ الشعب في المجمع.. ونقرأ في نهاية مناقشاتهم أنّ الرسل والقسوس وكلّ الكنيسة قد اختاروا رجلين لتوصيل قرارات المجمع مع بولس وبرنابا، وعند كتابة قرار المَجمَع صَدّروه بكلمة: الرسل والقسوس والإخوة (أي كلّ المؤمنين بالمسيح) يهدون سلامًا... (أع15: 22-23)، فلم يوجَد احتكارٌ للسلطة من جهة آبائنا الرسل الأطهار!
    + في حديث السيّد المسيح مع تلاميذه، وهو ينبّههم إلى خطورة فِكر التعالي، وشهوة المراكز الأولى، قال لهم انظروا إلى رؤساء الأمم كيف يستخدمون سُلطتَهم في السيادة على الشعب.. أمّا أنتم "فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيمًا، يَكُونُ لَكُمْ خَادِمًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلاً، يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا. لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (مر10: 43-45).. وهنا يعلّمنا السيّد المسيح كيف نستخدم السُّلطة التي يعطينا الله إيّاها في خدمة الآخرين بكلّ اتضاع.
 
    + أيضًا القدّيس يوحنا المعمدان عندما نَصَحَ الجنود، حذّرهم من إساءة استخدام سُلطتهم، بقوله "لاَ تَظْلِمُوا أَحَدًا، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَاكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ" (لو3: 14)، أي لا تستخدموا سلطانكم في البطش بالناس أو سلب حقوقهم، ولا تُطلِقوا تُهَمًا باطلة أو كاذبة على أحد.. واكتفوا برواتبكم، فلا تطمعوا مادّيًّا مُستغلّين سُلطتكم.
    + أمّا القدّيس بولس الرسول فهو أيضًا نموذج رائع للإنسان الذي يفهم معنى السُّلطة، ويستخدمها بكلّ حُبّ وحكمة واتضاع.. فهو مَثَلاً مكث في أفسس ثلاث سنين يُنذِر بدموع كلّ واحد، مُناديًا بالتوبة والإيمان، بكلّ تواضع ودموع كثيرة.. باذلاً نفسه إلى النهاية دون النظر إلى كرامته أو راحته، واضعًا في قلبه فقط إتمام الخدمة التي استلمها من الربّ يسوع بكلّ فرح.. بل أنّه لم يستخدم سلطته لأجل أيّة مكاسب مادّيّة، ولكنّه كان يَعمَل ويَصرِف على نفسه وعلى الذين معه.. (أع20: 18-38).
 
    + في حديثه مع أهل كورنثوس، هو يوبّخهم بحبٍّ أبويّ، مؤكِّدًا لهم أنّ "سُلْطَانِنَا الَّذِي أَعْطَانَا إِيَّاهُ الرَّبُّ لِبُنْيَانِكُمْ لاَ لِهَدْمِكُمْ" (2كو10: 8)، فهو يَفهم جيِّدًا أنّ السلطان الذي وضعه الله في الكنيسة -وبالتحديد في سرّ الكهنوت- هو لبنيان كلّ عضو في المسيح.
 
    + والقدّيس بطرس الرسول، يوضِّح لنا ارتباط السلطان الكهنوتي بالرعاية الأمينة المتواضعة، كما يكشف كيف أنّ هذا السُّلطان تصحبه التزامات هامّة، فيقول بالروح: "ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ.. لاَ بالقهر بَلْ بِالاخْتِيَارِ، وَلاَ لِرِبْحٍ قَبِيحٍ بَلْ بِنَشَاطٍ، وَلاَ كَمَنْ يَسُودُ عَلَى الأَنْصِبَةِ، بَلْ صَائِرِينَ أَمْثِلَةً لِلرَّعِيَّةِ." (1بط5: 2-3).. فالسيادة هي لله، والرعاة مجرّد وكلاء يجب أن يسهروا بكلّ اتضاع وأمانة على رعيّتهم، فيصيروا نماذجَ حيّةً يشتاق الكثيرون للتمثُّل بها.
 
 + ونرى أيضًا القديس بطرس يُمَجِّد القدّيس بولس، ويمدحه، ويَصِفُهُ بالأخ الحبيب الحكيم (2بط3: 15)، على الرغم من اختلاف مجالات الخدمة وأسلوب الرعاية بينهما.. فهو يستخدم سلطانه التعليمي من أجل تدعيم المحبّة ووحدانيّة القلب في الكنيسة، بمدح القدّيس بولس!
 + هذا -في الحقيقة- هو ما نريد أن نراه دائمًا في الكنيسة.. ولكن يبدو لي أنّ النظام الإداري الذي لدينا في الكنيسة القبطيّة يحتاج إلى شيء من التطوير والوضوح ووجود لوائح مُلزِمة، للحدّ من إساءة استخدام السُّلطة في الكنيسة.
  + لذلك من الأمور المؤثِّرة في نمو وسلام الكنيسة والتي أقترب منها بحذر، وأرى ضرورة إعادة النظر فيها، أن يتمّ تحديد لوائح للسُّلطة الإداريّة الخاصّة بالأب الأسقف، وعلى نطاق أضيَق أيضًا الأب الكاهن الذي يخدم في كنيسةٍ بمفرده.. فكلّنا نعرف أن السُّلطة المُطلقة ليست في صالح الكنيسة، بل ستتسبّب بالتأكيد في فسادٍ بدرجةٍ ما.
 
Every power corrupts, and absolute power corrupts absolutely.
  + في العهد المعاصر رأينا بعض المشاكل الصعبة في الكنيسة تأتي نتيجةً لوجود سُلطة كبيرة جدًّا في يد الشخص الذي يصير أسقفًا بين يومٍ وليلة.. ومع أنّ الكثيرين من الآباء الأساقفة يتميّزون بالروحانية والاتضاع والحِرص على سلام وبنيان الكنيسة، إلاّ أنّ السُلطة الماليّة والإداريّة الهائلة التي ينالها الأب الأسقف تظلّ بمثابة تجربة كبيرة له ولرعيّته!
 + فماذا يمكن تطويره من أنظمة ولوائح لكي تُحفَظ نفس الأب الأسقف في الاتضاع الذي هو أرض حاملة للفضائل، بعيدًا عن محبّة الكرامة والتعالي على الناس، ويُحفَظ أيضًا سلام الكنيسة ونموّها؟!
  لا أعرف إجابة متكاملة، ولكنّي سأطرح فقط بعض الأفكار الأوّليّة:
  1- تشكيل مجلس كهنة لكلّ إيبارشيّة. وهذا يكون مجلسًا منتخبًا يتكوّن من خمسة أو سبعة من الآباء الكهنة يتم انتخابه كلّ خمس سنوات بواسطة كهنة الإيبارشيّة أنفسهم، ويكون له دور رعوي وإداري ومالي واسع في كلّ إيبارشيّة.. وتكون له لائحة دقيقة تفصيليّة لتنظيم عمله. ويمكن الاسترشاد في ذلك بلائحة مجلس كهنة الإسكندريّة.
 
2- تشكيل مجلس ملّي منتخَب لكلّ إيبارشيّة، للمعاونة في بعض الأمور الإداريّة والمالية. وتكون له لائحة لتحديد اختصاصاته.
 
 3- تقوم هذه المجالس بمعاونة الأب الأسقف في إدارته للإيبارشيّة، وتقديم المشورة له في بعض الأمور.
 
 4- القرارات الإداريّة الكبرى في الإيبارشيّة يتّخذها الأب الأسقف بعد موافقة أغلبيّة مجلس الآباء الكهنة بالإيبارشيّة، وإذا لم تتوفّر موافقة الأغلبيّة، يُعاد النظر في القرار ويتمّ تعديله.. وتوضَع لائحة تفصيليّة لتحديد القرارات الإداريّة التي يمكن أن يأخذها الأب الأسقف بنفسه، والقرارات التي يحتاج فيها لتأييد الغالبيّة من مجلس أو مجمع الكهنة مع المجلّس الملّي للإيبارشيّة.
 
5- أمّا عن مؤهِّلات الشخص الذي يُدعَى لدرجة الأسقفيّة، من جهة النواحي الدراسيّة اللاهوتيّة والإداريّة والرعويّة، فهذا أمر هام جدًّا ولا غِنى عن وضع لائحة تفصيليّة له، ولكنّ المجال لن يتّسع للخوض فيه. فقط أعتقد أنّه كلّما تتلمذ الإنسان بالروح على يد آباء قدّيسين وأساتذة حقيقيّين متواضعين، ودَرَسَ لمُدّة طويلة، فإنّ ذهنه يستنير ويتّضع، وبالتالي يُحسِن توظيف المواهب التي يمنحها له الله، ويحترم أيضًا مواهب الآخَرين، لكي يُستفاد بها لصالح الكنيسة!
(يُتَّبَع)
* روابط الحلقات السابقة موجودة في التعليقات.