بقلم: د.عبدالخالق حسين
نشر الدكتور نزار أحمد مقالة له على مواقع الانترنت قبل أكثر من عامين، وتحديداً يوم 25/10/2010، بعنوان (أسباب إضطهاد الشيعة)، رد بها على فصل من كتابي الموسوم (الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق) والذي نشرتْ فصوله على مواقع الإنترنت في نفس السنة، تطرقت فيه إلى تاريخ التمييز الطائفي في مختلف العهود منذ العهد العثماني وإلى الآن. وكنت قد اطلعتُ على مقالة الدكتور نزار أحمد في وقتها إلا إني لم أتصور أنها كانت بحاجة إلى رد أو توضيح مني، خاصة وهي أصلاً رد على مقالي. ولكن الغريب في الأمر أن عاد تعميم المقالة مجدداً خلال الأسبوعين الماضيين، وراحت تصلني حتى من أصدقاء مقربين لي بمعدل ثلاث مرات يومياً تزامنا مع اندلاع ما يسمى بـ(الانتفاضة الشعبية) في المحافظات الغربية، والتي يسميها البعض بـ"ثورة الربيع السني" اتسمت برفع شعارات، وإطلاق هتافات مسيئة، وشتائم طائفية ضد الشيعة. لذا شعرتُ أن إعادة التعميم بشكل مكثف لها علاقة بما يجري على الساحة الآن من الشحن الطائفي وإثارة الفتنة الطائفة وبالتالي إلقاء اللوم على الشيعة.
كما وطالبني البعض بتوضيح موقفي، لذا رأيت من المناسب كتابة هذا الرد ولو متأخراً.
يبدأ السيد الكاتب مقاله بنوع من الإطراء بحقي مشكوراً، قائلاً: ((لفت انتباهي حديثا مقال جميل للكاتب عبد الخالق حسين تطرق فيه الى ما اسماه "طائفية العهد الملكي"))... ويضيف: ((لا غبار على صحة ودقة الارقام والإحصائيات التي استند عليها الكاتب لأنها اخذت من مصادر موثوقة. مضافا اليها حقيقة تعرض المكون الشيعي الى اهمال اقتصادي وثقافي خلال العهد الملكي والى اضطهاد دموي خلال الحقبة البعثية.))
كذلك ذكر الكاتب بعض الحقائق التي أتفق ويتفق معه كل قارئ علماني تقدمي منصف يريد الخير للعراق، مثل تأكيده على ضرورة تبني العلمانية والديمقراطية وذمه للطائفية.. الخ. ولكن بعد ذلك بقليل نجد أن الغرض من هذه العبارات القيمة هو لكسب ثقة القارئ بأنه محايد في هذا الموضوع، وأنه لا يقول إلا الحق ولمصلحة الجميع، وبذلك يسهل عليه تسويق أفكاره التي في معظمها مجافية للواقع والحقيقة، إذ كالعادة في مثل هذه الحالات، يلجأ هؤلاء إلى إلقاء اللوم على الضحية وتبرئة الجاني، فيقول:
((ولكن الكاتب لم يوفق اطلاقا في تفسير اسباب هيمنة المكون السني على الوظائف الحكومية بما فيها الحكومات العراقية التي تلاحقت على حكم العراق منذ نشأته الحديثة. ايضا اهمل الكاتب عن قصد (كذا) تحليلات الدكتور علي الوردي بانيا بدلا عنها فرضيات غير موضوعية في تفسيره لهذه الاحصائيات الواردة في مؤلفات الوردي مناقضا وهاملاً تفسيرات الوردي بهذا الخصوص.))
كنت أنتمنى على السيد الكاتب، لو تفضل علينا بذكر مثال واحد مما أدعى من إهمالي المتعمد لأقوال الوردي ليثبت صحة إدعاءاته.
فإذا كان يقصد بذلك دور بعض القيادات الدينية الشيعية في عزل أبناء طائفتهم، فأنا لم أهمل ذلك، إذ خصصت فصلاً كاملاً من الكتاب في هذا الخصوص بعنوان (دور الفقهاء الشيعة في العزل الطائفي)(1) ولم أهمل أي دور أو تقصير من قبل القيادات الدينية الشيعية، ولمتهم على ذلك، وبالأخص الشيخ مهدي الخالصي، مما دفع أحد الكتاب من أتباع الشيخ الرد عليَّ في هذا الخصوص بمنتهى التشنج بمقال عنوانه: (رداً على مقالة دور الفقهاء الشيعة في العزل الطائفي) وتحت العنوان عبارة: (رداُ على تلبيسات أدعياء الثقافة اليساريين الساقطين في أحضان الإمبريالية). بإمكان القارئ الكريم نقل العنوان إلى مساحة البحث في غوغل للإطلاع على المقالين.
يحاول الدكتور نزار أحمد إلقاء كل ما لحق بالشيعة من عزل وحرمان من حقوق المواطنة، على مرجعيتهم الدينية، فيقول:
((السؤال الذي يطرح نفسه هو هل هذه الهيمنة التي استمرت لأكثر من ثمانين عاما اسبابها كانت طائفية ام ان هناك اسبابا حقيقية اخرى تقف وراء هذه الهيمنة؟ ويجيب: "المجتمع الشيعي ومنذ ولاية الدولة العثمانية يختلف عن المكونين السني والكردي حيث تتحكم به مؤسستان، الأولى المؤسسة الدينية والثانية نظام العشائر. المؤسسة الدينية حاولت ولازالت تنتهج سياسة ابقاء المكون الشيعي متخلفا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا لأن ذلك يمثل مفاتيح التحكم به ويعتبر اهم عوامل قوتها واستمرارية ديمومتها وهيمنتها.)) (أنتهى).
هذا الكلام غير دقيق إطلاقاً، فهو ينفي عن العرب السنة والكرد صفة العشائرية والقبلية وحتى طاعتهم لمرجعياتهم الدينية. بينما الواقع يؤكد أن معظم الشيعة والسنة العرب ينتمون إلى نفس العشائر. ففي كل عشيرة (جبور، شمر، الزبيد، وحتى الدليم) هناك سنة وشيعة، يعتمد على التوزيع الجغرافي. مثلا أبناء عشائر الجبور في الوسط والجنوب شيعة، وفي الشمال سنة، وهكذا عن بقية العشائر. وكذلك الأكراد هم عشائر، سنة وشيعة.
أما اختلاف الشيعة العرب عن السنة منذ ولاية العهد العثماني فسببه ليس المرجعية كما أدعى الكاتب، بل عاملت الدولة العثمانية الشيعة كطائفة منحرفة عن الإسلام، واضطهدتهم ومنعتهم من دخول المدارس ووظائف الدولة. وحاولت السلطات الطائفية في العهد الملكي السير على النهج العثماني. (راجع مقالنا: الطائفية في العهد الملكي) الرابط أدناه.(2)
ويضيف الكاتب: ((لهذا نبين بعضا من سياسات المرجعية والتي كانت نتائجها هيمنة المكون السني
اولا: عند نشأة الدولة العراقية عام 1921, المؤسسة الدينية الشيعية قاطعت العملية السياسية برمتها وحرمت الانتماء الى مؤسسات الدولة العراقية او حتى التعامل معها.)) أنتهى.
هذا الكلام يمثل نصف الحقيقة، إذ كان الشيخ مهدي الخالصي وعدد من رجال الدين الشيعة اتخذوا هذا الموقف المتشنج من الدولة الوليدة التي هم ساهموا في ولادتها بثورة العشرين، وتم تهجيرهم إلى إيران بتهمة التبعية الإيرانية. ولكن في نفس الوقت كان هناك رجال دين شيعة مثل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد محمد الصدر، والشيخ محمد رضا الشبيبي، والزعيم السياسي المعروف جعفر أبو التمن وغيرهم كثيرون، كانوا يسعون لإنصاف أبناء طائفتهم ومشاركتهم في صنع القرار السياسي والوظائف الحكومية، ولكن كانت مطالباتهم تواجه بالقمع والرفض الشديد. إضافة إلى جلب كتاب طائفيين من البلاد العربية لتأليف كتب تحط من قدر الشيعة وتؤلب عليهم، وتعتبرهم من بقايا الفرس الساسانيين. وفتنة أنيس النصولي وغيره معروفة لكل من قرأ تاريخ العراق الحديث.
فكان ومازال هناك اتجاه في الوسط السني معارض لمشاركة الشيعة بالسلطة بما يناسب ثقلهم السكاني، وما تفرزه صناديق الاقتراع. وكل ما نشاهده ونقرأه هو نزعة الحط من الشيعة واتهامهم بالتبعية الإيرانية ونعتهم بالصفوية، وحتى التشكيك بعروبتهم وانتمائهم للعراق، دون أن نسمع أو نقرأ أية إدانة من السياسيين والكتاب العرب السنة، بمن فيهم العلمانيون، لهذه الحملة الضارية التي بدأت منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ولحد الآن. ففي الثلاثينات من القرن الماضي نشر المدعو (عبدالرزاق الحصان)، وبدعم عدد من رجال السلطة في ذلك العهد كتاباً بعنوان (العروبة في الميزان) واصفاً فيه الشيعة بأنهم “شعوبيون بالإجماع، فرس بالإجماع، وهم من بقايا الساسانيين في العراق، ولا حق لهم في السلطة، أو أي تمثيل في السلطة!! لأن الأجنبي ليس من حقه المساواة مع ابن البلد”.
أي أنه اعتبر الشيعة الذين قادوا ثورة العشرين أجانب!
ونحن بدورنا نسأل السيد نزار أحمد، ما علاقة هذا الكلام بالمرجعية الشيعية؟ الغرض هو تبرئة الطائفيين الذين زرعوا الطائفية مع وضع حجر الأساس منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وإلقاء اللوم كله على الضحية. فما الذي تغير الآن؟ لقد تحولت محاربة الشيعة من حروب كلامية عن طريق مقالات والكتب في العهد الملكي إلى حروب إبادة حقيقية بالمتفجرات في الوقت الراهن.
ثم يأتي الكاتب على: ((ثانيا: تحريم او عدم التشجيع على الانتساب الى الكليات العسكرية. خصوصا اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان الكليات العسكرية سواءً كانت في العهد الملكي او الحكومات الشمولية التي لحقته كانت تقبل جميع المتقدمين اليها والذين يجتازون الفحص الطبي، كذلك فإن الترقية في الجيش العراقي كانت تلقائيا ولا تفرق بين عمر وزيد.)) أنتهى.
هذه أيضاً مغالطة مقصودة ومضللة. فالمعروف أن المرجعية الشيعية ليست موحدة، بل كل من بلغ مرحلة الإفتاء في التراتبية الشيعية (آية الله) له أتباعه من الشيعة. وكما بينا، ليس كل فقهاء الشيعة منعوا أبناء طائفتهم من الالتحاق بالجيش، أو التقديم للكليات العسكرية، وهذا معروف. وإذا كان الأمر كما قال الكاتب في السنوات الأولى من العهد الملكي، فلماذا استمر عدم قبول المتقدمين الشيعة إلى نهاية العهد الملكي إلا نادراً. وهنا أعيد المثال الذي ذكرته في مقالي (الطائفية في العهد الملكي) والذي أغفله الكاتب قصداً، كالتالي:
روي لي الأستاذ عادل حبه (قيادي سابق في الحزب الشيوعي العراقي)، أنه حين أنهى مرحلة الدراسة الثانوية في الخمسينات، وحاز على معدل عال يؤهله للقبول بأية كلية يرغبها، قرر بناءاً على توجيه الحزب الشيوعي تقديم طلب قبول إلى الكلية العسكرية ليتخرج ضابطاً في الجيش، وجرى اجتيازه لكل الاختبارات بما فيها الفحوصات الطبية بنجاح، وعند مقابلته آمر الكلية العسكرية في المقابلة النهائية، لتدقيق أوراقه ومعدلاته والفحوصات الطبية، أبلغه أنه مستوفي كافة شروط القبول في الكلية العسكرية، لكن فاجأه بسؤال: هل أنت سني أم شيعي؟ فأجاب أنه شيعي. فأبلغه أن طلبه للالتحاق بالكلية العسكرية مرفوض.
كما ونقل لنا المرحوم عدنان عليان في كتابه (الشيعة والدولة العراقية الحديثة) شهادة من عراقي سني، وهو الراحل ثابت حبيب العاني، قيادي شيوعي سابق، ذكرها في ندوة فكرية عام 1993 في لندن، بمناسبة ذكرى ثورة 14 تموز 1958، تعرض للمسألة الطائفية وأكد وجودها في إطار التطبيق والممارسة، بكل مرافق الدولة، وبالخصوص القبول في الكلية العسكرية، فأورد حادثة حصلت له حين تقدم للكلية العسكرية هو وزميل له، فقبل هو فوراً، ورفض صاحبه، والسبب أن اسمه العاني، واسم زميله عبدالحسين (لا يسمى به إلا الشيعة)، في حين أكد العاني أن زميله كان أفضل منه من ناحيتين، اللياقة البدنية، والناحية العلمية.
ولا شك أن هناك الكثير من القصص المماثلة التي تعرَّضَ لها الناس بسبب التمييز الطائفي في ذلك العهد.
ثم يأتي الكاتب على ((ثالثا: تأييد المرجعية للإقطاع المسؤول الأول والأخير عن تخلف المجتمع الريفي العراقي... ورابعا: محاربة المرجعية لعبد الكريم قاسم الذي قضى على الاقطاع وحاول القضاء على هيمنة النظام العشائري وأحداث تنمية ثقافية واقتصادية.
((خامسا: محاربة المرجعية للعمل الحزبي وخصوصا الاحزاب العلمانية والليبرالية واليسارية. فمن منا لا ينسى فتوى المرجعية والتي اعتبرت الانتماء الى الحزب الشيوعي كفرا والحادا. لحد هذه اللحظة يعاني الحزب الشيوعي من آثار هذه الفتوى الجائرة))
جوابنا هو: من المعروف أن معظم رجال الدين في العراق وخارج العراق، سنة وشيعة هم مع الإقطاع، والقوى الرجعية. وهذه الصفة لا ينفرد بها رجال الدين الشيعة في العراق إلا نادراً. أما موقف المرجعية من الأحزاب العلمانية فهو الآخر معروف، ولماذا ينسحب هذا الموقف على الشيعة وحدهم؟ فالشيعة لم يطيعوا قيادتهم الدينية في هذا الخصوص، إذ معظم الجماهير التي دافعت عن عبدالكريم قاسم وحكومته هم من الشيعة، و80% من المنتمين للحزب الشيوعي وغيره من الأحزاب العلمانية وحتى حزب البعث، هم من الشيعة. فلو كان للمرجعية كل هذا التأثير على الشيعة لتغيرت هذه الأرقام. ونشعر أن في كلام الكاتب هذا محاولة لاستمالة اليسار إلى موقف طائفي ضد الشيعة، نتمنى عليه تجنبها. أما سبب معاناة الحزب الشيوعي وانحسار شعبيته لحد الآن فليس فتاوى المرجعية، بل السياسات الخاطئة التي تبناها الحزب الشيوعي في معظم مراحل تاريخه، وبالأخص في تحالفاته مع الفاشية البعثية في السبعينات، وانهيار الأيديولوجية الشيوعية وبطلان مفعولها عالمياً.
ثم يصل الكاتب إلى بيت القصيد وهو التحريض على السياسيين الشيعة دون غيرهم فيقول:
((والآن وبعد ثمان سنوات من وصول الحكومات الشيعة إلى دفة الحكم محمولة على دبابات العم سام، ماذا قدمت هذه الحكومات للمكون الشيعي غير الفقر والتشرذم والتخلف والأمراض والبطالة ونقص الخدمات والركود الاقتصادي والفقر الثقافي واغتصاب الاوجه الترفيهية وتقسيم المجتمع الشيعي الى بؤرات دينية متناحرة وإعادة هيمنة النظام العشائري.)) انتهى
هناك عدة مغالطات في هذه الأقوال. الأولى، هل حقاً الحكومات منذ ثمان سنوات هي شيعية أم تضم ممثلين من جميع مكونات الشعب؟ وهل مجرد كون رئيس الوزراء شيعي، صارت الحكومة كلها شيعية؟ لا نريد ذكر انتماءات الوزراء الدينية والمذهبية، فهذه الحقائق معروفة للجميع، ولكن الإصرار على وصفها بأنها حكومة شيعية، رغم أن رئيس الجمهورية سني كردي، ورئيس البرلمان سني عربي، وأكثر من 60% من الوزراء هم من السنة (عرب وكرد وغيرهم). فهل كون رئيس البرلمان عربي سني، صار السنة العرب مهيمنين على البرلمان؟ المشكلة هنا أن الجماعة لا يمكن أن يقبلوا شيعياً رئيساً للوزراء.
أما المغالطة الأخرى فهي قوله أن هذه الحكومات الشيعية جاءت إلى دفة الحكم محمولة على دبابات العم سام.
أولاً، يجب أن يعرف السيد نزار أحمد وغيره من الذين يرددون هذه الأقوال ليل نهار، أن النظام البعثي هو بالأساس من صنع العام سام. وباعتراف زعيم حزب البعث الأسبق، علي صالح السعدي، أنهم جاؤوا إلى الحكم عام 1963 على القطار الأمريكي. وهناك بحوث وشهادات تؤكد أنه حتى مجيئهم للحكم عام 1968 كان بتخطيط ودعم العام سام وبدفع من الشركات النفطية الأمريكية والبريطانية. وما حملة الاغتيالات لبعض المشاركين في ذلك الانقلاب (ناصر الحاني، وعبدالرزاق النايف وغيرهما) فيما بعد، إلا لإخفاء دور العام سام.
كما واعترف الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلتنون، أن أمريكا تتحمل مسؤولية أخلاقية لمساعدة الشعب العراقي بتحرير العراق من حكم صدام الجائر، لأن أمريكا هي التي أوصلته إلى الحكم ومدته بالدعم.
وثانياً، صحيح أن القوات الدولية بقيادة أمريكا هي التي اسقطت حكم البعث الفاشي، وهي نفسها التي حررت أوربا من الفاشية والنازية الهتلرية، إلا إن الحكومة منذ 2004 وإلى الآن هي نتاج صناديق الاقتراع. والإصرار على ترديد القول أن الحكومة نصبتها أمريكا (وإيران كما يدعي البعض الآخر) هذه الأقوال مغرضة وكيدية ودليل على معاداة هؤلاء للديمقراطية والانتخابات، وإلغاء شرعية الحكومة المنتخبة لتبرير إسقاطها بالإرهاب.
ويضيف الكاتب بنبرة تحريضية قائلاً: ((من يذهب الى مدن الثورة والشعلة والجمهورية (البصرة) والحي (الكوت) وعلي الغربي (ميسان) لا يجد فرقا بين الامس واليوم بل يجد احوالها اسوأ مما كانت عليه حتى في عهد البعثية. ثمان سنوات ليس بالزمن القصير مقارنة مع عهود عبد الكريم قاسم والعارفين والبكر. كذلك لا يمكن التحجج بتدني الوضع الامني لان مناطق الجنوب والوسط مستقرة امنيا ومنذ يوم سقوط الصنم (كما يسموه) وان كانت تحدث اعمال شغب فسببها خلافات وتناحرات مليشيا احزاب الاسلام السياسي الشيعية.)) (انتهى)
دعونا نناقش هذه النقاط واحدة واحدة:
لقد أهمل حكم البعث جميع الخدمات والبنى التحية والركائز الاقتصادية منذ تورطه بحربه العبثية مع إيران عام 1981، إلى سقوطه عام 2003. إضافة إلى 13 سنة من الحصار الاقتصادي، والخراب البشري. فمن المستحيل تغيير الوضع في ثمان سنوات أو عشر سنوات، ومع ذلك هناك تحسن ملموس في جميع الميادين، ولكن هناك حملة إعلامية مضادة لإنكار الإيجابيات، وتضخيم السلبيات، واختلاق المزيد منها لإظهار العهد البعثي بالعهد الزاهر. بينما يجب على البعثيين أن يتواروا عن الأنظار بعد كل هذا الخراب والمجازر والحروب والدمار الذي ألحقوه بالعراق والمنطقة. فماذا أبقى البعثيون ليواجهوا به الشعب العراقي؟
ثم يذكر الكاتب شهيد الوطنية العراقية الزعيم عبدالكريم قاسم وما حققه من مكتسبات للشعب خلال 4 سنوات ونصف السنة من حكمه القصير. كان الزعيم قاسم قد اعتمد على شخصيات تكنوقراط وطنية فذة مثل محمد حديد، وإبراهيم كبة، وهديب الحاج حمود، وعبداللطيف الشواف، ومصطفى علي وغيرهم كثيرين. ولم يكن لعبدالكريم قاسم برلمان مشاكس له يمتنع عن التصويت على برنامجه الإعماري لكي لا يكون دعاية يستفيد منها رئيس الوزراء كما هو الحال اليوم مع المالكي. كذلك لم يجرأ أحد من وزراء الزعيم قاسم أن تكون له رجل في الحكومة ورجل في الإرهاب، وكذلك لم تكن هناك القاعدة الوهابية الإرهابية والتفجيرات والمفخخات وغيرها. لذلك فمن المغالطة القول أن غياب الأمن لا علاقة له بالتلكؤ بالبناء والإعمار. والجنوب كغيره من المناطق العراقية لا ينعم بالأمن كما ادعى الكاتب. ومع ذلك لم يسلم الزعيم قاسم من مؤامرات البعثيين المجرمين. فالبعث هو أخطر وأخبث سرطان أصاب الجسد العراقي.
أما البكر فكان يحكم العراق بالحزب الواحد الذي يحصي على الناس أنفاسهم. فالإرهابيون اليوم هم الذين كانوا يحكمون في عهد البكر لذلك شعارهم: (إما أن نحكم العراق أو ندمره). ولذلك تراهم يعادون الديمقراطية لأنهم لا يستطيعون الوصول للسطلة عن طريق الانتخابات النزيهة.
ويسأل الكاتب: "لماذا لا يمثل الشيعة غير الاسلامي؟"
وجوابنا هو: من قال لك لا يمثل الشيعة غير الإسلامي؟ فهناك نحو 30 نائباً من القائمة "العراقية" هم من الشيعة من بغداد ومحافظات الوسط والجنوب. كذلك نسبة كبيرة من كتلة دولة القانون، والإئتلاف الوطني (الحكيم) هم علمانيون شيعة وحتى بينهم سنة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، الدكتور مهدي الحافظ من كتلة دولة القانون، وهو قيادي شيوعي سابق.
كذلك، كون الحزب إسلامياً لا يعني أنه طائفي، إذ أكد رئيس الوزراء نوري المالكي مراراً وتكراراً أنه يسعى لبناء دولة مدنية (أي علمانية). كذلك أكد قياديون سنة من كتلة "العراقية" مثل الشيخ خلف العليان، والشيخ حميد الهايس، أن المالكي ليس طائفياً بل زعيماً وطنياً. كذلك يمكن القول أن الحزب العلماني لا يعني أنه غير طائفي. فالذين حكموا العراق قبل 2003 لم يكونوا إسلاميين، بل كانوا علمانيين حد النخاع، ولكنهم كانوا طائفيين حد النخاع أيضاً (عدا حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم).
إذ كما قال العلامة علي الوردي: " الإنسان العراقي أقل الناس تمسكا بالدين، وأكثرهم انغماسا بين المذاهب الدينية، فتراه ملحدا من ناحية وطائفيا من ناحية أخرى".(شخصية الفرد العراقي، ص 47).
فهل الذين رفعوا صور صدام حسين ورددوا هتافات طائفية ضد الشيعة في تظاهرات الرمادي والفلوجة هم من أحزاب إسلامية؟ كلا، بل معظمهم بعثيون لا دينيون. ومن الجانب الآخر، هل سمعتم يوماً هتافاً طائفياً من حزب إسلامي شيعي ضد أهل السنة؟ أبداً.
يدعي السيد نزار أحمد ((أن تحكم المؤسسة الدينية وسياستها هما سبب ابقاء المجتمع الشيعي متخلفا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا. هذه السياسة مهدت للهيمنة السنية في العهود الماضية ولازالت تضطهد المجتمع الشيعي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وترفيهيا ولا فرق ان كان الحاكم شيعيا ام سنيا ام كورديا.)) (انتهى)
إذنْ، المجتمع الشيعي في رأي الكاتب متخلف اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا. ولكن بعد فقرات قليلة يقول لا فظ فوه: ((الطائفة الشيعية زاخرة بالعقول العلمية والثقافية والأدبية والإدارية والاقتصادية والأكاديمية ...)).
أما فيما يخص وضعهم الاقتصادي، فنذكر الكاتب أن معظم تجار الشورجة الذين أمم عارف ممتلكاتهم، ومن ثم هجرهم صدام حسين بتهمة التبعية الإيرانية لأسباب طائفية، كانوا من الشيعة. أما عامة الشيعة فحالهم كحال العامة من بقية مكونات الشعب، فهم الفقير وفيهم الغني وفيهم البين بين، ولا أعتقد للمرجعية أية علاقة بوضعهم الاقتصادي.
وفيما يخص تصاعد دور العشائر في هذه المرحلة فسببه ليس "الحكومة الشيعية" بل حكم البعث الذي أحيا القبلية والعشائرية وأعاد الشعب العراقي إلى ما قبل تكوين الشعوب. وهذه الكارثة لا يمكن التخلص منها بإصدار فرمان من رئيس الحكومة، ولا في عشر سنوات، بل يستغرق وقتاً طويلاً.
يقول الكاتب: "المرجعية هي التي صنعت الدستور العراقي؟"
وهذا غلط كبير. المرجعية ساهمت وبطلب من السياسيين، أن تلعب دوراً في دمقرطة البلاد وكتابة الدستور. فالمرجعية أصرت على أن يكتب الدستور من قبل نواب منتخبين من الشعب. ولذلك فقد ساهم أكثر من سبعين نائباً من جميع مكونات الشعب العراقي، في كتابة الدستور الذي صوت عليه الشعب. وهذه هي الديمقراطية. ومع ذلك، فلو تقرأ الدستور لا تجد فيه أي أثر شيعي سوى الديباجة (المقدمة)، وهي لا تقدم ولا تؤخر.
ولم يكتف الكاتب بإلقاء اللوم على المرجعية في كل شيء، إذ يلومها حتى على الفساد. وكأن الفساد من طائفة واحدة فيقول: ((فواجب المرجعية هو حماية والدفاع عن حقوق المواطن المؤمن وليس الحياد عن فساد الساسة وتكاثر برجوازيتهم)).
فمن جهة يطالب الكاتب المرجعية بعدم التدخل في السياسية، ومن جهة أخرى يطالبها بالتدخل للتخلص من الفساد.
نؤكد للسيد نزار أحمد، أني لا أريد الدفاع عن المرجعية، فهي لا تحتاج دفاعي، ولكن الحقيقة يجب أن تقال. فلحد علمي، وفيما يخص السيد علي السيستاني أنه لا يرغب التدخل في السياسة، وضد حكم ولاية الفقيه. ولكن ظروف المرحلة القاهرة، وعدم وجود زعيم سياسي يتمتع بالاحترام العميق لدى الجميع، اضطر السياسيون الشيعة، اللجوء إلى المرجعية لما لها من المكانة الروحية والتأثير على أتباعهم، وكان دور المرجعية إيجابياً في جميع المناسبات، وأهمها مطالبتهم الشيعة بالصبر وضبط النفس عندما تعرضوا ومازالوا لمجازر الإرهاب وهدم أضرحة أئمتهم.
أما سبب التفاف الشيعة حول الأحزاب الإسلامية فهو من أجل البقاء. وهذه غريزة طبيعية (داروينية) ينفذها الكائن الحي حتى بدون وعي. فعندما يرى الشيعي وجوده مهدداً لا لشيء إلا لأنه شيعي، وهو في نظر السني أجنبي إيراني، صفوي، ابن المتعة وخنزيز وابن خنزير، عندئذ لا يرى بداً سوى التخندق في حزب الطائفة. وهذا هو سبب هزيمة الأحزاب العلمانية في المحافظات ذات الغالبية الشيعية. ولذلك يتمتع التحالف الوطني (دولة القانون+ الإئتلاف الوطني) بأكبر عدد من المقاعد (159). ولا أتوقع أن تكون النتائج أقل من ذلك في الانتخابات القادمة.
يقول الكاتب: ((أن التيار الصدري يمثل صوت ايران في الحكومة العراقية ولا تهمه مصلحة الشيعة بقدر ارضاء النظام الايراني.))
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا ترحب به "العراقية" وهي تمثل العرب السنة، والصدر أحد الزعماء الثلاث (علاوي وبارزاني والصدر) لسحب الثقة من المالكي؟ هل إيران تريد سحب الثقة من المالكي؟ إذنْ، لماذا يصرخون ليل و نهار أن المالكي عميل إيراني؟
ثم يعترف الكاتب أن "المكون الشيعي لم يعد مكونا موحدا وانما اصبح متكون من مكونات مذهبية متناحرة مع بعضها البعض".
ونحن نوافقه على ذلك، فشأن الشيعة كبقية مكونات الشعب العراقي، منقسم على نفسه.
ويختم الكاتب مقاله بملاحظة فيقول: ((شخصيا انا ضد جميع اشكال الطائفية سواء كانت قومية او دينية او مذهبية او عشائرية ولكن تطرقي الى الطائفية انطلق من واقعية الوضع الراهن. كذلك احترم حرية المواطن بممارسة العقائد الدينية التي تناسب اعتقاده الشخصي ولكني اقف ضد تسيس الدين وضد الاكراه في الدين واستغلاله لغسل عقل المواطن والتحكم به. في دولة المواطنة الشخص حر في سلوكه وتصرفاته واعتقاداته وافكاره مهما كانت بضمنها الالحادية او ممارسة العقائد غير السماوية. فهل تقبل المرجعية بذلك؟ شخصيا لا اعتقد واكاد اجزم)).
وأنا أتفق كلياً مع الكاتب في هذه الخاتمة الجميلة، ولكن يجب عليه دعم الأقوال بالأفعال. فالمسألة ليست بالتمنيات وترديد مقولات ضد الطائفية، ولا بيد المرجعيات الدينية، بل نتيجة الظروف الموضوعية التي يعيشها الشعب، ومدى تطور وعي الشعب سياسياً وفكرياً وأمنياً واقتصادياً. وقد صدق من قال :"غيِّر ظروف الإنسان تتغيَّر أخلاقه." فالحل الوحيد للتخلص من الأحزاب الإسلامية الشيعية هو نبذ الصراع الطائفي، ودحر الإرهاب الذي يشنه البعث وحليفته القاعدة لإبادة الشيعة، والعمل على إرساء دولة المواطنة والنظام الديمقراطي. فطالما يشعر الشيعي أنه معرض للإبادة بسبب مذهبه، فلا
يرى غير الأحزاب الإسلامية ملاذاً له من أجل البقاء، وكل ما عدا ذلك هراء في هراء.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات ذات علاقة بالموضوع
1) د.عبدالخالق حسين: دور الفقهاء الشيعة في العزل الطائفي
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/news/408.html
2)د.عبدالخالق حسين: الطائفية في العهد الملكي
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/index.php?news=411