القمّص يوحنا نصيف

أولاً: أمراض خاصّة بمحبّة المال والانشغال بالمادّيات:

    + هدف الأسقف والكاهن الأساسي أثناء خدمته الرعوية لشعب المسيح، هو تمجيد اسم الله، وبنيان كلّ نفس في المسيح، ونموّها روحيًّا، من خلال وسائط النعمة والأسرار المقدّسة والتغذّي بكلام الحياة الأبديّة. وفي سبيل ذلك تُنشَأ الكنائس والأبنيّة الملحقة بها، والتي تحتضن الأنشطة التعليميّة بكلّ أشكالها.

    + أحيانًا ينشغل الأسقف والكاهن بتفاصيل البناء والتوسُّع على حساب جودة ودسم التعليم الأُرثوذكسي نفسه، وهذا بالطبع مرض يلزم الانتباه له والحرص على عدم تسلّله للكنيسة؛ إذ قد نجد في بعض الأوقات ميزانيّة ضخمة توضَع للمباني، بينما الصرف على التعليم اللاهوتي ونشر الفِكر الآبائي الأصيل لا يجد مَن يهتمّون به!

    + بالتأكيد، المباني والخدمات المتعدّدة مثل الحضانات والمدارس والمستشفيات التابعة للكنائس لها رسالة عظيمة، لكن ينبغي دائمًا الانتباه والحذر من شُبهة التربُّح المادّي، الذي هو مرض خطير يمكن أن يتسلّل فيُفَرّغ رسالة الكنيسة من مضمونها، بينما هي مؤسسة -إذا جاز التعبير- لا تهدف إلى الرِّبح المادّي، بل فقط تهدف لربح النفوس إلى ملكوت المسيح.. لذلك فعندما ينشغل الإكليروس في مشاريع استثماريّة، أو تتحوّل الخدمات الرعويّة التي تقوم بها الكنيسة إلى مصادر لزيادة الإيراد، سيكون من المُتَوّقّع أن تتراجع وتنزوي الأهداف الروحيّة للخدمة، وقد تَذبُل تمامًا!

    + في الماضي القريب كانت تُقام "الموالد" في أعياد القدّيسين، وكانت تأتي بإيرادات كبيرة، ولكنّها كانت بعيدة تمامًا عن الروحانيّة، بل كان فيها سلوكيّات غير لائقة.. نشكر الله أنّها تقلّصَت الآن بدرجة ملحوظة، وتحوّل أغلبها إلى نهضات روحيّة.. ولكن يبدو لي أنّ هناك مرضًا مُشابِهًا يُحاوِل التسلُّل الآن إلى الكنائس، ينبغي أن ننتبه إليه ونطرده؛ وهو المتاجرة برفات القدّيسين والشهداء، عن طريق بناء مزارات عديدة لهم، من أجل تشجيع الناس على التبرّعات والزيارات وتقديم النذور!

    + ربّما يظنّ البعض أن وجود رصيد مالي كبير في صندوق الكنيسة سيعطيها مزيدًا من الأمان والاستقرار، وهذه فكرة خاطئة وخطيرة إذ أنّ الله هو الوحيد الضامن لثبات واستقرار الكنيسة؛ وهو لم يوصِ تلاميذه أبدًا بالاتكال على الأموال. وفي أغلب الأحيان عندما يكون الهدف هو زيادة الأرصدة المالية، فإنّ ذلك سيأتي على حساب الاهتمام بمساعدة الأسَر المحتاجة حول الكنيسة، والتي ينبغي أن يكون لها الأولويّة. وهنا أذكر رأي قداسة البابا تواضروس الذي أكّده عدّة مرّات أن يكون ثلث إيراد الكنيسة على الأقلّ مُخَصّصًا لتسديد احتياجات الفقراء والأسَر المستترة.

    + معروف عند الجميع أنّ "محبّة المال أصل لكلّ الشرور" (1تي6: 10)، فالمال هو مجرّد وسيلة للعيش ولا يَصلُح كغاية؛ هو مجرَّد وزنة نُستأمَن عليها، وسنُعطِي عنها حسابًا. لذلك لابد أن يتعامَل الإكليروس بحذر وانضباط شديد مع المال، مُراعِين الأمانة الكاملة والتدبير الحَسَن في صَرفِهِ. إنّ الأسقف والكاهن هما مجرّد وكلاء على مال الله؛ والله يفرح بالوكيل الأمين الحكيم الذي يهتمّ بأولاده ويعاملهم بحنوّ وشفقة، ويعطيهم طعامهم في حينه (لو12: 42-46).

    + بخصوص الكاهن، من المهم عدم خلط المال العام بالمال الخاصّ، والحذر من الطمع، لأنّ هذا يؤدّي إلى عثرات مزعجة، وقساوة قلب.. والكاهن بصفته رجل الله يجب أن يكون قدوة في تنفيذ الوصيّة الجميلة: "لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ" (عب13: 5).

    + في نفس الوقت يجب أن يكون نظام الكنيسة بالنسبة لمرتّبات الآباء الكهنة مواكبًا للظروف المعيشيّة، وأعتقد أنّ معظم الإيبارشيّات أصبحَت تهتمّ بذلك. لا أنسى في أحد اجتماعات المتنيّح البابا شنودة مع مجمع كهنة الإسكندريّة، عندما وقف أحد الآباء يشكو من عجزه عن تدبير المصاريف الكبيرة المطلوبة لعلاجه، أنّ البابا شنودة انزعج جدًّا وقال: "لَمّا الكاهن ما يلاقيش يتعالج دي تبقى كارثة من الكوارث". نشكر الله أنّ الأوضاع المادّيّة للكهنة الآن أفضل كثيرًا من ذي قبل، فقط يتبقّى أن يتحلّى الكاهن دائمًا بعِفّة اليد، ويُقَدِّم جميع الخدمات مجّانًا وبفرح لكلّ الناس، ويهتمّ بالعمل الرعوي واثقًا أنّ الله سيدبر كلّ احتياجاته واحتياجات أسرته المادّيّة.

    + أمّا الأب الأسقف صاحب السلطات الواسِعة، فإنّ الأمور المادّيّة بالتأكيد تُشَكِّل تجربة كبيرة له؛ إذ أنّ تدبير الميزانيّة الضخمة للإيبارشيّة بنظام مُحكَم، وترتيب أولويّاتها بأمانة وحِسّ رعوي، يحتاج أوّلاً إلى إرشاد من روح الله، مع وجود نظام مالي دقيق وشفّاف يساعد الأب الأسقف، ويَضبط كلّ وجوه الصرف، حتّى لا تتلوَّث خدمتُه الرسوليّة الجليلة بالمكاسب المادّيّة وتَعَظُّم المعيشة، والافتخار الباطل بالكرامة الأرضيّة والشهرة.

    + هنا أقترح أن يتواجَد نظام مالي مُحكَم في الكنيسة القبطيّة الأُرثوذكسيّة، لكي نَحمِي الإكليروس والعمل الرعوي كلّه من شُبهة الفساد المالي الذي يؤذي ويشوِّه صورة الكنيسة. هذا النظام ينبغي أن يَشتَمِل على تواجُد لجنة ماليّة مركزيّة في البطريركيّة، تضع أنظمة ماليّة موحَّدة لجميع الإيبارشيّات والأسقفيّات العامّة والأديرة القبطيّة بالكرازة المرقسيّة، ويكون دورها مراجعة ومتابعة الموقف المالي في كلّ مكان بشكل دوري، ويَصلُها تقريرٌ سنويّ من كلّ مطرانيّة أو أسقفيّة أو دير بكلّ شفافية.. وتُقدِّم هذه اللجنة لقداسة البابا والمجمع المقدّس تقارير سنويّة بعملها. وتوضَع لها لائحة تفصيليّة بطريقة تشكيلها وحدود وظيفتها.

    + هذا النظام له أهمّيته القصوى؛ إذ عن طريقه سنحمي الكنيسة من شبهة الفساد المالي، وأيضًا لن تكون الإيبارشيّات والأديرة جُزُرًا مستقلّة متناثرة بعيدًا عن بعضها، بل ستكون الكنيسة كلّها جسدًا واحدًا مترابطًا مع بعضه، يفرح الجميع بأداء دورهم في خدمة الجسد الواحد، والاهتمام بكلّ عضو فيه؛ فلا يصير هناك أيُّ أحدٍ محتاجًا (أع4: 34)!

(يُتَّبَع)
القمّص يوحنا نصيف