هاني لبيب
المفترض عند الموت أن تسود مشاعر التقدير والاحترام، أو على أقل تقدير الصمت. ولكن ما حدث هو حالة من التفجير التى أصابت السوشيال ميديا فى موجة عاتية من السخرية والشماتة عقب إعلان رحيل البابا فرنسيس. وهى موجة.. حملت طابعًا طائفيًا بغيضًا أسود بامتياز. الحقيقة أن ما سبق لم يكن سوى مرآة تعكس حجم الخلل القيمى والأخلاقى الذى أصاب الكثير ممن يندرجون زورًا وبهتانًا تحت مسمى إنسان.. وهم تجردوا من إنسانيتهم، وتعاملوا مع الموت كفرصة لتصفية الحسابات الدينية.. فى تجاهل تام لأبسط المبادئ والقيم التى تجمع الإنسانية على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأفكارهم.

لم يكن البابا فرنسيس مجرّد رئيس دينى للكنيسة الكاثوليكية على مستوى العالم فحسب، بل كان رجلًا يقدر خصومه خلقه الرفيع، ومواقفه الثابتة، وحرصه على ترسيخ مبادئ الحوار والتعايش والسلام بين أتباع الأديان. أن يقوم البعض من الضالين.. باستقبال خبر رحيله بتعبيرات ساخرة صفراء وضاحكة واستخدام كلمات شديدة الكراهية والطائفية، هو أمر يدعو للأسى ليس لكون البابا يدين بالمسيحية، ولكن لأنه فعل منحرف ينتمى إلى أسفل السافلين، ولا يليق بمن يعتبر نفسه مصنفًا كإنسان.

تبرز الطائفية البغيضة السوداء فى مثل تلك اللحظات، بتجاوزها نطاق الاختلاف الطبيعى فى العقيدة إلى مستوى مرضى من الرفض للطرف الثانى المختلف فى العقيدة الدينية. وبالتالى، يصبح الموت فرصة للشماتة لا للتأمل. والملاحظ أن غالبية هذه الحملات الموجهة.. غالبًا ما تأتى بشكل مغلف سابق التجهيز بعبارات ظاهرها الحماسة للدين، ومضمونها الكراهية والتشفى. من المؤسف جدًا أن يختزل البعض الدين، الذى هو فى جوهره محبة ورحمة، إلى شعارات وهمية يتم توظيفها كسلاح للنيل من الطرف الثانى، بدلًا من أن تكون الطريق إلى التواصل.

لا يجد الإنسان أيًا كانت ديانته فى الموت مساحة للشماتة والسخرية. بل إن الإنسانية، قبل الإيمان، تحتم علينا احترام هيبة الموت، حتى لو كان مخالفًا لنا فى العقيدة الدينية. ولا ننسى أن الأديان تتفق أن الموت هو موقف يتطلب التأمل لا الإدانة، والدعاء لا التهكم، والصمت لا السخرية. ومع ذلك، فإن ما حدث.. يكشف عن أزمة عميقة فى الوعى الدينى والثقافى لدى من انجرفوا خلف هذا الخطاب الطائفى البغيض الأسود.

أحذر.. من أنه لا يجب النظر لما حدث باعتباره مجرد حالة فردية عابرة، بل كمشهد فائق الخطورة لثقافة الكراهية التى تغلغلت فى مستويات اجتماعية عديدة لتقسيم المواطنين إلى «نحن» و«هم»، وإلى «مسيحى» و«مسلم»، وإلى أرثوذكسى وكاثوليكى، وإلى سُنى وشيعى.

الفكر الطائفى الذى يمثل فى جوهره مرجعية الخطاب الطائفى.. ليس ناتجًا عن التمسك بالدين، بل عن سوء فهمه وتفسيره، وعن توظيفه لتبرير أحقاد دفينة. وهو ما جعل البعض أسرى لفهم متعصب طائفى متشدد، يقدس الشماتة والكراهية، ويحرم التعاطف والتسامح، ويصنف المواطنين بناء على طائفتهم وليس على إنسانيتهم.

المؤسف أيضًا أن نفقد الكلمات الطيبة فى مثل تلك اللحظات الفارقة، وأن يصبح الترفع عن الكراهية نوعًا من الضعف، بينما ترتفع الأصوات التى تؤجج وتحرض وتشعل الفتن، وكأنه الانتصار. المشكلة لا تكمن فقط فيمن يروجون وينشرون مثل تلك الرسائل الطائفية البغيضة السوداء، بل أيضًا فى الصمت الذى يقابلهم، وفى التواطؤ المستتر من خلال من يعتقدون أن «الموقف الدينى» يفرض عليهم التجاهل أو حتى التأييد، سواء كانوا من أبناء الدين نفسه أو من دين مختلف. وهو ما يؤكد أن ثقافة العنف والكراهية هى التى تحكم علاقات هذا المجتمع.

نقطة ومن أول السطر..
الإنسان يُعرف بمواقفه من الاختلاف. ومن يجرد من يتوهم أنه خصمه الدينى من كرامته فى لحظة رحيله إنما يؤكد على عدم إنسانيته. ليس من البطولة والانتصار الإساءة إلى رمز دينى عند رحيله، بل بالتمسك بالإنسانية رغم الخلاف والاختلاف.

المبادئ الدينية لا تكتمل دون وجود التسامح والعدل والمساواة وقبول الاختلاف.
نقلا عن المصري اليوم