ماجد سوس
زمنٌ رديءٌ ينقلب فيه الحق باطلًا والباطل حقًا. زمنٌ صاخبٌ تُكال فيه الاتهامات دون فحص أو تمحيص، بل قبل أن تصل حتى إلى أذهان الديّانين، أولئك المحسوبين على الكنيسة الذين لم يعد لديهم وقت لقراءة الكتاب المقدس والصلاة القلبية والجلوس تحت أقدام السيد يوميًا، أو الاشتراك في الأسرار المقدسة أسبوعيًا، لأنهم منشغلون في الدفاع عن الإيمان ومحاربة المختلفين معهم في أفكارهم.

كما تعرّض ويتعرض بابا الإسكندرية لهجمات شرسة، كذلك، بل أكثر، يتعرض البابا المتنيح فرنسيس الأول لهجمات مماثلة. مصدر هذه الهجمات أحيانًا هو سوء الفهم، وأحيانًا قصور في نقل السياق، وأحيانًا أخرى تعصبٌ مفرط لدى متشددين منغلقين دون وعي أو فهم. واليوم، في هذا المقال، سيكون تركيزي على بابا روما.

أولًا: عدم إعادة المعمودية
كان البابا الراحل شنودة الثالث، وبشهادة الأنبا سيرابيون مطران كرسي لوس أنجلوس والقمص تادرس يعقوب، لا يعيد معمودية الكاثوليك طالما تمت بالتغطيس، وكان يكتفي فقط برشمهم بزيت الميرون. ولهذا السبب فكر البابا فرنسيس في إعلان هذا الموقف رسميًا، ودعا البابا تواضروس للتوقيع على وثيقة بعدم إعادة المعمودية، تأكيدًا لقرار البابا شنودة. وعندما هاجم أهل الشر هذه الخطوة، طلب بابا روما إعادة صياغة الوثيقة حمايةً للبابا تواضروس من الهجوم.

ثانيًا: الادعاء بالمشاركة في طقس وثني
الادعاء بأن البابا فرنسيس شارك في طقس وثني عندما استقبل قبائل من الأمازون وسمح لهم بجلب تمثال "باشاماما" إلى حديقة الفاتيكان، هو ادعاء غير صحيح. ما جرى كان تمثيلًا رمزيًا ثقافيًا وبيئيًا، هدفه لفت الانتباه إلى معاناة السكان الأصليين وبيئتهم. لم يكن سجودًا، ولم يكن تصفيق البابا لأي "وثن"، بل تعبيرًا عن الاحترام الإنساني، وليس موافقةً دينية.

ثالثًا: ما ورد في وثيقة الأخوّة بأبو ظبي
ما نُقل عن البابا فرنسيس في وثيقة الأخوّة بأبو ظبي، بأن "كل الأديان موحاة من الله"، ليس تصريحًا رسميًا، بل تفسير إعلامي. المقصود أن الله في رحمته يسمح بوجود ديانات متعددة، وهو ما يُعرف بـ"سماح الله"، أي أن الله لا يُجبر الناس على الحق، بل يمنحهم حرية البحث. وقد كان البابا شنودة الثالث يبدأ كلمته أمام شركاء الوطن بقوله: "باسم الإله الواحد الذي نعبده جميعًا"، ولم يعترض أحد. بل قال في اجتماع حوار الأديان أمام الرئيس السادات: "باسم الإله الذي يعبده المسلمون والمسيحيون الموحِّدون بالله"، وأشاد يومها بالإسلام وروحه في معاملة غير المسلمين، وتغزّل في الخلفاء الراشدين والوثيقة العمرية وأحاديث رسول الإسلام، ولم يهاجمه أحد.

رابعًا: وثيقة المثليين
الضجة التي أُثيرت حول الوثيقة الأخيرة من الفاتيكان بخصوص المثليين، والتي سمحت بمباركة "الأشخاص" لا "العلاقات"، تدل على أن كثيرين لم يقرؤوا النص، بل اعتمدوا على التفسير العاطفي. البابا فرنسيس لم يغيّر عقيدة الكنيسة، بل دعا إلى إظهار الرحمة، موضحًا أن "مباركة الأفراد" لا تعني "الموافقة على الخطيئة"، وهي ليست مباركة للزواج المثلي إطلاقًا. قال قداسته: "إذا كان هناك شخص مثلي يبحث عن الله، ولديه نية صادقة، فمن أكون أنا لأحكم عليه؟"

وإليكم جزءًا من الوثيقة:
التأكيد على ضرورة تجنّب "جميع أشكال التمييز غير العادل، ولا سيما جميع أشكال العدوان والعنف" تجاه المثليين جنسيًا، وتشجب الوثيقة ما يحدث في بعض الأماكن من "سَجن الأشخاص، وتعذيبهم، وحتى حرمانهم من الحق في الحياة بسبب توجههم الجنسي فقط". كذلك تنتقد الوثيقة نظرية الجندر، التي تعدّ خطيرة لأنها تمحو الفروقات بحجة المساواة المطلقة. وتؤكد الكنيسة أن الحياة البشرية، بجميع مكوناتها الجسدية والروحية، هي عطية من الله، يجب قبولها بامتنان ووضعها في خدمة الخير. وتدعو لرفض محاولات إنكار الاختلاف الجنسي. كما تعتبر تغيير الجنس لمن يعانون من تشوّهات خلقية عند الولادة أو لاحقًا، أمرًا مقبولًا فقط إن تم تحت إشراف طبي لحل حالات استثنائية.

وقد سُئل البابا شنودة الثالث: هل يجوز رسامة كاهن خصي؟ فأجاب بأنه يجوز، بالطبع، إذا كان الخصاء خلقيًا أو حصل دون إرادته، كما في حال الحرب. ولم يشجّع البابا شنودة ولا البابا فرنسيس إطلاقًا على زواج المثليين أو رسامتهم للكهنوت إن فعلوا ذلك من غير حاجة طبية.

أحبّائي،
إن البابا فرنسيس لم يتحدث فقط، بل جسّد أفعاله بالمحبة والتواضع. فقد رفض الإقامة في القصر البابوي الذي يُعتبر قصر رئيس دولة، ورفض التفاخر بسيارة "لامبورجيني" الفارهة التي أُهديت له، فوضعها في مزاد وتبرع بثمنها (مليون دولار) للجمعيات الخيرية. البابا الذي قدم محبة لكل كنائس العالم، أعلن اعتبار شهداء ليبيا الأقباط شهداء للكنيسة الكاثوليكية أيضًا، ووضع جزءًا من رفاتهم في روما.

وعلى المستوى السياسي، سجد وقبّل أقدام قادة دارفور متوسلًا إليهم وقف الحرب، في موقف أدهش العالم. وفي حرب إسرائيل على غزة، وقف مع الشعب الفلسطيني، واعتبر ما تقوم به إسرائيل جرائم حرب، حتى إن الحكومة الإسرائيلية سحبت تعزيتها.

البابا فرنسيس، كتب في وصيته أن يُدفن في التراب، دون إقامة زخارف، وأن يُكتب على قبره فقط: "فرنسيس"، وأوصى ألا تتحمل الكنيسة تكاليف دفنه، إذ طلب أحد المحبين التكفّل بذلك.

هنيئًا لك الفردوس، يا أبي. ستكون سيرتك منارة، لمن يخلفك ولأولادك الروحيين ولمن يرنو للعيش مثلك في اتضاعك وقداستك، وفقرِك الاختياري، وسعيك نحو وحدة المحبة بين كل خليقة الله.