د. سامح فوزى
فى الأسبوع الأخير للسيد المسيح، اتجه إلى تعليم الناس بكثافة، ليس فقط بالكلام، ولكن أيضا بالممارسة، وهو منهج اتبعه بصفة عامة فى علاقته بتلاميذه، والجموع التى كانت تتبعه. فى يوم الخميس، الذى يسمى خميس العهد، انحنى وغسل أرجل تلاميذه فى لقائه الأخير معهم، تاركًا مثالا مهما فى الحياة أن الشخص المسئول، أيا كان موقعه، ينطلق فى رسالته من خدمة الآخرين، لا التعالى عليهم. وعندما اعترض أحد تلاميذه على ذلك، وهو القديس بطرس الرسول، وبخه السيد المسيح، وحذره بأنه لن يكون له نصيب معه فارتعد، وقبل أن يغسل المٌعلم قدميه.
يحتفل العالم غدًا، شرقًا وغربًا، بعيد القيامة المجيد، وقد يكون ذلك باعثًا على طرح سؤال يلخص أزمة تستشرى فى المجتمعات بصور متعددة: لماذا يتراجع مفهوم «الخدمة العامة»- الذى قدمه السيد المسيح- لصالح مفهوم آخر هو «السيطرة»، الذى يناقض بالتأكيد خبرة «غسل الأرجل»؟ لماذا تتسلل الرغبة فى السيطرة إلى أعماق الموظف الإدارى الصغير والمسئول فى المراكز العليا؟ وأكثر من ذلك، لماذا لم تكتف السيطرة بالهيمنة على البيزنس، والسياسة، واندفعت إلى مجالات لا يصح أن تكون فيها مثل العمل الديني، والنشاط الأهلي، ومساعدة الفقراء، والتعليم، الخ. باختصار، لماذا توارى مفهوم السلطة- بمعنى الخدمة العامة- وحل محله مفهوم السلطة بمعنى السيطرة؟
هناك أسباب تجيب عن هذا السؤال:أولها انحراف التربية والتكوين، وبث الشعور بالتفوق على حساب الآخرين فى أذهان الأطفال والنشء، مما يدفعهم إلى ممارسة العدوان والعنف والتنمر مع أقرانهم. فى مجتمعات كثيرة، هناك جرائم بالغة العنف أبطالها أطفال أو شباب حديثى السن، تنطوى على إكراه، واغتصاب، واستخدام السلاح. من أين اكتسب هؤلاء تلك الذهنية المدمرة، التى تنضح بالرغبة فى السيطرة على الآخرين؟ بالتأكيد من الأسرة، الأنترنت، الدراما، ثقافة الشارع، الخ. السبب الثانى هو تراجع الثقافة الإنسانية، نتيجة محدودية الكتابات التى تقدم فكرًا إنسانيًا عميقًا للجمهور العام، وتراجع معدلات التطوع فى العمل الأهلي، وضعف التربية المدنية فى مؤسسات التعليم التى تبث فى نفوس النشء قيم التسامح، وقبول الاختلاف، والعمل المشترك. وبالتالى نترك الجيل الجديد بلا حصانة ثقافية أمام طوفان الإنترنت، وثقافة العنف، وأحوال المجتمع المضطربة. أما العامل الثالث، وله أهمية خاصة فهو اضطراب ما نسميه التنشئة التنظيمية، أى نقل المعارف والخبرات من جيل إلى جيل داخل المؤسسات، أيا كان نوعها: إدارية، سياسية، اجتماعية، دينية، ثقافية. ويفترض أن يتعلم الشخص قيم وأساليب ممارسة العمل عندما يلتحق بأى مؤسسة، يمتصها، ويهضمها، ويعيش بها. تشير شواهد كثيرة إلى خطورة التنشئة التنظيمية فى أماكن العمل فى نقل ممارسات الفساد وانعدام النزاهة،والاستحواذ، والهيمنة، والنفاق، والتسلق على أكتاف الآخرين، وتهميش الغير بهدف الظهور المنفرد.وهناك، على النقيض نماذج إيجابية، تحتاج إلى توثيق وتعميم، لأشخاص تأثروا كثيرًا بقياداتهم فى العمل، وعلى أيديهم تعلموا قيمًا وخبرات ظلت تلازمهم طيلة حياتهم،تدور فى مجملها حول فلسفة «غسل الأرجل»، بمعنى خدمة الآخرين، والسعى إلى مساعدتهم، والاستثمار فيهم، وإبراز الكفاءات بينهم.
ومما يُؤلم فى الحقيقة، تقلص مساحة الخدمة العامة فى المؤسسات التى تقوم عليها فى الأساس. نسمع كثيرا عن ممارسات تنضح بالقهر تٌمارس على الفقراء من جانب الذين يقدمون المساعدة لهم، أبسطها التعامل معهم بجفاء، وأسوأها السعى إلى اقتسام المساعدات التى تصل إليهم، ونجد نفس الممارسات أيضا – بصورة أو بأخري- فى المؤسسات التعليمية، والمجال الأكاديمي، إلى حد التسلط والابتزاز، وقد لا يكون غريبًا أو مستغربًا أن نجد مواطنين يشكون أحيانًا الجهاز الإداري، الذى يلبى طلباتهم بصعوبة، ويسيء معاملتهم، ويتعامل معهم من موقع سلطة. ولم تسلم الأسرة، رغم أن تكوينها الأساسى يقوم على الود والمحبة، من ممارسات العنف والقهر إلى حد التفسخ والتبعثر. هذه مجرد أمثلة عن ممارسات مسكونة بالتسلط فى الحياة، هذا بالطبع خلاف الجرائم المنظمة التى تقوم فى جوهرها على استغلال الناس مثل الاتجار فى البشر، والإباحية والاغتصاب، والزج بالأطفال فى الحروب وأعمال العنف، وحصار الناس ومنع الدواء والغذاء عنهم مثلما يحدث فى غزة الخ.
بالتأكيد المشهد مؤلم فى مجتمعات عديدة، حيث تتراجع الخدمة العامة وسط فقر وتهميش وديون وتعثر اقتصادي، مما يدفعنا إلى التفكير فيما ذكره بعض الكٌتاب النقديين فى الغرب عن صورة السيد المسيح فى ذهن الإنسان المعاصر: هل هو من انحنى وغسل أرجل تلاميذه، وخدم الجموع بالتعليم والمثال، أم هو شخصية تاريخية، يعلن الناس الانتساب إليه، بينما يمارسون الحياة عكس تعاليمه ووصاياه؟.
نقلا عن الأهرام