من كنوز القديس كيرلس السكندري - 85 -
القمص يوحنا نصيف
يُقَدِّمَ القدّيس كيرلّس الكبير تعليقات لطيفة على أحداث دخول الربّ يسوع المسيح إلى أورشليم، راكبًا على جحش ابن أتان (لو19: 28-40)، أقدّم في هذا المقال بعض المقتطفات منها:
+ يُسَبِّح التلاميذ المسيح مُخَلِّص الكلّ، ويدعونه باسم المَلِك، والربّ، وأنّه سلام السماء والأرض. ولنسبّحه نحن أيضًا آخِذين قيثارة المرنِّم ونقول: "ما أعظم أعمالك يارب، بحكمةٍ صنعتَها" (مز103: 24 سبعينيّة).
+ دعاه الوقت أخيرًا، إلى تلك الآلام التي هي لخلاص العالم كلّه، ليُحَرِّر سُكّان الأرض من طُغيان العدو، ويُبطِل الموت، ويبيد خطيّة العالم.
+ ربّما يقول قائل: عندما كان يجتاز في اليهوديّة كلّها -لأنّه كان يُعَلِّم في مجامعهم، كما كان يصنع المعجزات أيضًا- فإنّه لم يَطلب دابّة ليركبها. وبينما كان يُمكِنُه أن يشتري واحدة، فإنّه لم يفعل، مع أنّه كان كثيرًا ما يَتعَب في الطريق من رحلاته الطويلة.. مَن يُمكِنه أن يجعلنا نُصَدِّق أنّه عندما كان ذاهِبًا من جبل الزيتون إلى أورشليم -وهُما مكانان يفصلهما مسافة قصيرة جدًّا- سوف يحتاج إلى جحش؟ لذلك علينا أن ننظر ما هو التفسير، وما المنفعة التي نستخلصها من هذا الحدَث؟ وكيف نجعل من ركوب المسيح على جحش مثالاً لدعوة الأمم؟
+ خلَق إلهُ الكلِّ الإنسانَ على الأرض، بذهنٍ يتميّز بالحكمة والقدرة على الفهم. لكنّ الشيطان خدعه، رغم أنّه مخلوق على صورة الله، وأضَلّه حتّى لا يَعرِف خالق الكلّ وصانعهم، فأذلّ سُكّان الأرض إلى أدنى مستوى من عدم التعقُّل والجهل. وإذ يَعرِف النبيّ الطوباوي داود هذا، ويبكي بمرارة لأجله، فإنّه يقول: "إنسانٌ في كرامةٍ ولا يفهمها، هو مثل البهائم التي لا تَفهَم، وقد صار شبيهًا بها" (مز48: 12 سبعينيّة).
+ لذلك، فمِن المُحتَمَل أنّ الأتان الأكبر تُشير إلى مجمع اليهود، والذي -لو جاز القول- صار بهيميًّا، لأنّه لم يُعطِ سوى اهتمامًا قليلاً لناموس موسى، واحتقر الأنبياء القدّيسين؛ وأضاف إلى هذا أيضًا عصيانه للمسيح، الذي كان يدعوه للإيمان وإلى انفتاح عينيه. لأنّه قال: "أنا هو نور العالم، مَن يؤمِن بي فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة" (يو8: 12). لكنّ الظلمة التي يتحدّث عنها هي بلا شكّ ظُلمة الذهن، أي الجهل والعمى، ومرض عدم التعقُّل الشديد.
+ أمّا الجحش الذي لم يكُن قد جلس عليه أحد، فهو يُمَثِّل الشعب الجديد المدعو من بين الوثنيّين، لأنّه كان أيضًا بالطبيعة عديم الفهم، تائهًا في الضلال؛ لكنّ المسيح صار حكمةً له، لأنّ "فيه مُذَّخَر جميع كنوز الحكمة وأسرار المعرفة" (كو2: 3).
+ إذن، فقد أُحضِرَ الجحش، إذ أرسل المسيح اثنين من تلاميذه لأجل هذا الغرض. وماذا يُعنِي هذا؟ إنّه يُعنِي أنّ المسيح يدعو الوثنيّين بأن يَجعَل نور الحقّ يُشرِق عليهم، ويَخدمه لأجل هذا الغرض مجموعتان من خُدّامه، أعني الأنبياء والرسل؛ لأنّه تمّ ربح الأمم إلى الإيمان بواسطة تعاليم كرازة الرسل، الذين كانوا يُضيفون دائمًا إلى كلامهم شهادات مستمَدّة من الناموس والأنبياء.
+ لقد أتوا بالجحش من القريّة، لكي يشير به أيضًا إلى حالة الهمجيّة التي كان عليها ذهن الوثنيّين.. لكنّهم لم يستمرّوا في هذه الذهنيّة الهمجيّة، بل على العكس تغيّروا إلى ملء السلام والحكمة، لأنّهم صاروا خاضعين للمسيح الذي علّمهم هذه الأمور.
+ هكذا فإنّ الأتان قد رُفِضَت، لأنّ السيّد المسيح لم يَركَب عليها، مع أنّها قد تَرَوَّضَتْ من قبل، وتدرّبَت أن تخضع لراكبيها، ولكنّه ركب الجحش مع أنّه غير مُدَرَّب، ولم يُختَبَر من جهة حمله لأيّ راكب، ولا في خضوعه للّجام، لأنّه كما قلتُ رَفَضَ (المسيحُ) مَجمَعَ اليهود.. كشيءٍ قد شاخ وفسد، ولكونه ضلّ بعيدًا في عصيان متعمّد لإله الكلّ، واستحسنَ الجحشَ الذي يرمز إلى الشعب الذي من بين الوثنيّين.
+ تذمَّرَ الفرّيسيّون، لأنّ المسيح كان يُسَبَّح، فاقتربوا منه وقالوا: "انتهِر تلاميذك". لكن أيّها الفرّيسي، أيّ خطأ عملوه؟ أيّ تهمة توجّهها للتلاميذ؟ كيف تريدهم أن يُوَبَّخوا؟ لأنّهم لم يُخطِئوا بأيّ طريقة، بل بالأحرى فعلوا ما هو جدير بالمديح، لأنّهم إنّما قد مَجَّدوا مَن قد أشار إليه الناموس من قَبْل، برموز وصور كثيرة -كَمَلِكٍ وربٍّ- وقد كرز به جماعة الأنبياء القدّيسين منذ القديم. لكن أنتم احتقرتموه وأحزنتموه بحسدِكم الذي لا حدود له. كان من واجبكم بالأولى أن تنضمّوا إلى الباقين في تمجيدهم له. كان من واجبكم أن تتراجعوا عن خبثكم الفطري وتُغَيِّروا سلوككم نحو الأفضل. كان من واجبكم أن تتبعوا الأسفار المقدّسة، وأن تعطشوا إلى معرفة الحقّ؛ لكن هذا لم تفعلوه، بل حوّلتم كلامكم إلى العكس تمامًا، إذ أردتم توبيخ المنادين بالحقّ. فبماذا أجاب المسيح؟ "أقول لكم: إن سكتَ هؤلاء، فالحجارة تصرخ".
+ من المستحيل ألاّ يُمَجَّد الله، حتّى لو رَفَضَ أبناء جنس إسرائيل أن يفعلوا هذا؛ لأنّ الوثنيّين كانوا سابقًا مثل حجارة، أي قُساة، لكنّهم نالوا الخلاص من ضلالهم السابق، ونجوا من يد العدو وأفلتوا من الظلمة الشيطانيّة، وقد دُعوا إلى نور الحقّ، واستفاقوا كما مِن سُكْرٍ، وعرفوا الخالق، وسبّحوه ليس سِرًّا ولا في خِفيةٍ، وليس بطريقةٍ مستورة أي في صمتٍ، بل بمجاهرة الكلام وبصوتٍ عالٍ، وباجتهادٍ داعين بعضهم البعض وقائلين: "هلمّوا نسبِّح الربّ، ونرتّل مزامير لله مخلّصنا"، لأنّهم قد اعترفوا كما قلتُ بالمسيح مخلّص الكلّ.
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 130) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]