الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
ما من حدثٍ إنجيليّ يُجسّد التوتّر بين الخلاص الإلهيّ والتوقّعات الشعبيّة مثل مشهد دخول المسيح إلى أورشليم. فالمشهد، في ظاهره، يبدو احتفاليًّا: هتافاتٌ، أغصانُ زيتون، وأناشيد مستوحاة من المزامير. غير أنّ القراءة اللاهوتيّة السياسيّة تفضح الطبقات العميقة لهذا الحدث، وتنقّب في بُعده النبويّ: يسوع يدخل المدينة لا مثل ملكٍ فاتح، بل مثل ناقدٍ راديكاليّ للنظام الدينيّ والسياسيّ القائم.
يختار يسوع أن يدخل على جحش، لا على حصان عسكريّ. إنّه رمزٌ لاهوتيّ مكثّف: رفضٌ واضح للمنطق الإمبرياليّ، وإعلانٌ عن مَلَكٍ لا يشبه الملوك. في خلفيّة المشهد، تلوح مواكبُ بيلاطس التي كانت تخترق أورشليم من بابها الغربيّ في الأعياد الكبرى، لإرهاب الشعب وتذكيره بأنّ قيصر هو السيّد الأوحد. أمّا يسوع، فيدخل من الشرق، من جبل الزيتون، حيث ترقّب النبيّ حزقيال عودة مجد الربّ. دخولان، وموكبان، وسلطتان: واحدةٌ ترتكز إلى القوّة والعنف، وأخرى ترتكز إلى الوداعة والصدق والسِلم.
لا يمكن حصرُ هذا المشهد في النشوة الروحيّة لمسيحٍ ملائكيّ يحلّق في عوالم فردوسيّة منزّهة عن التاريخ. فالهتاف الشعبيّ، والأغصان المرفوعة، والملابس المفروشة على الطريق، لا تفصح فقط عن فرحٍ صوفيّ، بل تكشف عن طموحٍ خلاصيٍّ سياسيّ. إنّها لحظة انفجار أملٍ شعبيّ طويل: أملٌ في أن يكون هذا الراكب الآتي من الجليل هو المسيح السياسيّ الذي سيطرد الرومان، ويعيد بناء مملكة داوود، ويحرّر الشعب من نير الاحتلال ومن فساد النخبة الدينيّة المتحالفة مع السلطة.
لكنّ يسوع، وهو يدخل المدينة راكبًا جحشًا لا جوادًا عسكريًّا، يفجّر التوقّعات. لا يلبّي الحلمَ القوميّ بمخلّصً مقاتل. بل يفتح الشعب على خلاص آخر: خلاصٍ يبدأ من الداخل، ويتجذّر في اللاعنف، ويقوم على قلب الطاولات في الهيكل بدلًا من قلب الحُكم في القصر. بهذا، يكشف يسوع عن توتّرٍ جذريّ بين ما ينتظره الشعب، وما يعلنه الله.
هذا التوتّر لم يُفهم بعد. فالجماهير التي هتفتْ له اليوم، ستصرخ بعد أيّام: "اصلبه!". إنّها خيبةُ الجماعة التي كانت تحلم بخلاصٍ سريع، بانقلابٍ سياسيّ مباشر، فلمّا رفض يسوع لعبَ هذا الدور، تنكّرتْ له. في هذا، يكشف الإنجيل عن مأساة الإنسان حين يحاول احتكارَ صورة الله، وتطويعها لحساب أيديولوجيّاته القوميّة أو الدينيّة.
إنّ دخول يسوع إلى أورشليم، بهذا المعنى، ليس مشهدًا احتفاليًّا بقدر ما هو دينونةٌ نبويةٌ للنظام، وفضحٌ لتواطؤ المعبد مع الدولة، واستفزازٌ لضمير الشعب. هو دعوةٌ إلى إعادة تصوّر الملوكيّة، لا بوصفها سيطرةً، بل خدمة؛ لا بوصفها سلطةً، بل حمل الصليب؛ ليس مجدًا أرضيًّا، بل حبٌّ حتّى الموت.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ