د.ماجد عزت إسرائيل
 بيت عنيا، إحدى قرى فلسطين الواقعة جنوبًا ضمن منطقة اليهودية، لم تكن مجرد قرية عابرة في الجغرافيا، بل محطة حاسمة في تاريخ البشرية عامة، وفي الخلاص المسيحي خاصة. ففي هذه القرية، بدأت أحداث الصلب والقيامة، عندما دخلها السيد المسيح وأقام لعازر من الموت بعد أربعة أيام، في معجزة أعلنت سلطانه على الموت ومهّدت الطريق إلى الصليب... ومنه إلى القيامة.

من بيت عنيا إلى أورشليم: طريق الفداء يبدأ بمحبة
 بيت عنيا لم تكن فقط موقعًا لمعجزة مدهشة، بل بداية واضحة لطريق الفداء. هناك، حيث أقام السيد المسيح لعازر من الموت بعد أربعة أيام، بدأت الأحداث تتسارع نحو الصليب.فلقد دفع المسيح حياته ثمنًا لإقامة لعازر من الموت، كما دفعها أيضًا فداءً عن كل أحبائه، مانحًا الحياة لكل من يؤمن بخلاصه العجيب. فقد كانت هذه المعجزة سببًا مباشرًا في تأجج غضب رؤساء الكهنة والفريسيين، إذ: "فَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ." (يو 11: 53). ومنذ تلك اللحظة، لم يعد يسوع يسير بين اليهود علنًا، بل انسحب مع تلاميذه: "فَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضًا يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ عَلاَنِيَةً، بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْكُورَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْبَرِّيَّةِ، إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا أَفْرَايِمُ، وَمَكَثَ هُنَاكَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ." (يو 11: 54).وباقتراب عيد الفصح، صعد يسوع إلى أورشليم: "وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيبًا، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ." (يو 2: 13) وفي ظل هذه الأحداث المتوترة، أصدر رؤساء الكهنة والفريسيون أمرًا واضحًا:"وَكَانَ أَيْضًا رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْرًا أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ، لِكَيْ يُمْسِكُوهُ." (يو 11: 57) هكذا بدأت خطوات الفداء. فالمسيح الذي أقام لعازر للحياة، مضى طوعًا نحو الألم والموت، لكي يهبنا نحن الحياة الأبدية.

موقع قرية بيت عنيا
تقع قرية بيت عنيا على المنحدر الشرقي لجبل الزيتون، عند التقاء الطرق القديمة التي كانت تصل أريحا ونهر الأردن بمدينة أورشليم. وهي إحدى الضواحي المحيطة بمدينة القدس، وتُعد بوابة الدخول إلى صحراء يهوذا.وقد حدد الكتاب المقدس موقعها بدقة، إذ ورد: "وَكَانَتْ بَيْتُ عَنْيَا قَرِيبًا مِنْ أُورُشَلِيمَ نَحْوَ خَمْسَ عَشْرَةَ غَلْوَةٍ." (يو 11: 18)والـ"غلوة" هي مقياس يوناني الأصل، يُعادل 606 أقدام إنجليزية، أي ثُمن ميل روماني تقريبًا، ما يعادل نحو 2.8 كيلومترًا تقريبًا.وبذلك كانت بيت عنيا قريبة جغرافيًا من أورشليم، وقريبة روحيًا من لحظة الصليب، إذ بدأت من هناك آخر فصول حياة السيد المسيح على الأرض.


المسميات التى أطلقت على بيت عنيا
أما اسم بيت عنيا، فهو اسم آرامي الأصل، ويعني "بيت البؤس" أو "بيت البائس"، بينما يُترجم في العبرية إلى "بيت حنانيا". وقد تغيّر هذا الاسم في الحقبة البيزنطية، ليُطلق على القرية اسم "العيزرية"، وهو الاسم الذي ما زال متداولًا حتى اليوم، ويعني بالعربية: "قرية لعازر"، إشارة إلى المعجزة الكبرى التي وقعت هناك بإقامة لعازر من بين الأموات. فهذا الاسم الجديد أصبح الأكثر شيوعًا بين الكتاب والمؤرخين والجغرافيين على مر العصور.فتقع قرية بيت عنيا/العيزرية على بعد نحو 2.5 كيلومترًا، أو ما يقرب من 1.5 ميلًا جنوب شرق جبل الهيكل، على مقربة من مدينة أورشليم. وتُشير النصوص المقدسة إلى أن تاريخ إنشائها يعود إلى زمن عودة أبناء سبط بنيامين من الجلاء في بابل، كما جاء في: "وَفِي الْقُرَى الَّتِي حَوَالَيْ أُورُشَلِيمَ سَكَنَ بَنُو يَهُوذَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ فِي مُلْكِهِ فِي قُرَاهُمْ... وَبَنُو بَنْيَامِينَ سَكَنُوا مِنْ جَبَعَ إِلَى مِخْمَاسَ وَعَيَّا وَبَيْتِ إِيل وَقُرَاهَا،وَعَنَاثُوثَ وَنُوبٍ وَعَنَنْيَةَ." (نحميا 1:1- 32) وهكذا، فإن بيت عنيا لم تكن فقط موقعًا جغرافيًا هامًا، بل محطة إلهية حملت في طيّاتها رمزية الألم والمعجزة والفداء.

بيت عنيا وإقامة يسوع لعازر من الموت
على أيّة حال، تُعد قرية بيت عنيا الموطن الرئيسي للسيد المسيح في منطقة اليهودية، تمامًا كما كانت كفرناحوم موطنه في ناحية الجليل.فبيت عنيا لم تكن مجرد موقع جغرافي، بل بيتًا يفيض بالحب والضيافة والصداقة.وقد ورد ذكرها في إنجيل لوقا، حيث يقول الكتاب:"وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا." (لوقا 10: 38). فبيت عنيا هي القرية التي زارها يسوع خلال خدمته العلنية في اليهودية عام 32 م، وفيها عاش بعض من أعزّ أصدقائه: مرثا، ومريم، وأخوهما لعازر. وفي هذا البيت تحديدًا، جرت واحدة من أعظم المعجزات، والتي سجلها لنا القديس يوحنا الإنجيلي:"قَالَ يَسُوعُ: «ارْفَعُوا الْحَجَرَ!». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا، أُخْتُ الْمَيْتِ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللهِ؟». فَرَفَعُوا الْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ الْمَيْتُ مَوْضُوعًا، وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ، وَقَالَ: «أَيُّهَا الآبُ، أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ، لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي». وَلَمَّا قَالَ هذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ:«لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا!». فَخَرَجَ الْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيل.فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ». (يوحنا 11: 39–44).ففي بيت عنيا، كشف الرب مجده، لا فقط في إقامة جسد ميت، بل في إعلان محبته العميقة لكل من آمن ويؤمن به، فهو القائل: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا،" (يو 11: 25).

 وأخيرَا، بيت عنيا، حيث البساطة والصداقة والضيافة، تجلّى مجد الله بأسمى صوره. فهناك لم يُقام لعازر فحسب، بل أُقيم الرجاء في قلب كل من آمن. فالمسيح، الذي تأثر وبكى عند قبر صديقه، هو نفسه الذي أقام لعازر من الموت بكلمة منه، وأعلن أمام الجميع أن من يؤمن به، وإن مات، فسيحيا. فبيت عنيا لم تكن مجرد قرية على أطراف أورشليم، بل كانت نقطة بداية لخلاصٍ آتٍ، حيث بدأت الخطوات الأولى نحو الصليب، وهناك اختلط الحزن البشري بالعزاء الإلهي، فصار الموت بوابة لحياة لا تزول. وما أعمق النداء الذي لا يزال يتردد عبر الأجيال: :«لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا!» هو نداء لكل نفس تسكن في ظلمة، لكل قلب أثقله الحزن أو البعد، نداء من رب الحياة يدعونا أن ننهض، أن نتحرر من قيودنا، وأن نخرج... لنحيا فيه.