د. ماجد عزت إسرائيل
في ذكرى أسبوع الآلام، نشتاق أن نعود بالذاكرة والروح إلى الزمن الذي سار فيه السيد المسيح بين الناس، نلمس الأرض التي وطأتها قدماه، ونتأمل وجوه الذين رأوه وسمعوه وآمنوا به، أو رفضوه وطلبوا صلبه. فنرغب أن نفهم البيئة التي عاش فيها: الشوارع، والأسواق، العادات، والتقاليد، والمشاعر المتضاربة في أورشليم عند دخوله الظافر، والتوترات السياسية والدينية التي أحاطت برسالته.

  فدخل السيد المسيح إلى مدينة القدس وسط أجواء تعج بالحركة، حيث كانت أورشليم تكتظ بالملايين من اليهود الذين جاءوا يشترون خراف الفصح، لكن وسط هذا الزحام، علت أصوات التهليل: «مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!»" (مر 11: 10). وأيضًا "وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِينَ: «أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!»." (متى 21: 9)، وكذلك "فَلَمَّا رَأَى رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ الْعَجَائِبَ الَّتِي صَنَعَ، وَالأَوْلاَدَ يَصْرَخُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَيَقُولُونَ: «أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ!»، غَضِبُوا" (متى 21: 15). وخرج الأطفال والرُضَّع يسبحون، وامتلأ الهيكل بالأصوات، حتى غضب رؤساء الكهنة والكتبة.كما ضم هذا المشهد المهيب وجود رجال العهد القديم الذين رأوه بعينيّ الإيمان خلال النبوّة، وتبعته جماعة خلفه تسبِّحه كممثّلة لرجال العهد الجديد الذين تمتّعوا بما اشتهاه الأنبياء. لقد أدرك رؤساء الكهنة والفرّيسيّون كلمات الرب بعقولهم لكنهم لم يقبلوها بروح الحب والبنيان، وعِوض أن يقدّموا توبة عما ارتكبوه فكّروا في الانتقام منه.


  ومع ذلك، واجه السيد المسيح رفضًا مرًّا. فدخل الهيكل وطهره من الباعة والصيارفة،"وَقَالَ لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!»" (مت 21: 13). ولكنه، بدلًا من أن يثير هذا الموقف التوبة، أثار الغضب والرغبة في الانتقام. فتسللت سوسة الحسد والكراهية في قلوب القادة، مثل حشرة خفية تنخر في الخشب، لا يظهر فسادها في الحال، لكنها تدمر البنيان في العمق، وهذا ما حدث في أيام المسيح، وما يحدث اليوم.

  وقد توالت المشاهد: محاكمة صورية، وشهود زور، ورئيس كهنة يمزق ثيابه مدعيًا التجديف كما  ورد  بالكتاب قائلاً: "فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلًا: «قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ!" (مت 26: 65).، وجمهور يصرخ قَائِلِينَ: «اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!» (يو 19: 6). وحكام بلا ضمير يغسلون أيديهم من دم البريء.حيث دون القديس متى قائلاً: "فَلَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ شَيْئًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلًا: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!»" (مت 27: 24).والسيد المسيح لم يجب بكلمة، لكنه أعلن الحق بصمت القوة: «مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ»(مت 26: 64).

 وها نحن اليوم، نعيش بعضًا من هذه القصة مجددًا، في صور مختلفة. حين يتحول الحوار إلى صراع، والخدمة إلى منافسة، والمحبة إلى شكوك،فإن سوسة الانتقام تعود، لتنهش في جسد العلاقات والعائلات والكنائس.فنرى أناسًا يهجرون بعضهم بسبب كلمة، ويقاطعون لقاءً بسبب ظن، وينقلون شائعات تقتل، لا أقل من صلب.

 ولكن القصة لم تنتهِ.فكما قام المسيح من الموت، قادر هو أن يقيم ما مات فينا: المحبة، والنقاوة، والسلام، والغفران، والرجاء. ما زال يُعيد تشكيل أورشليم الحقيقية في داخلنا، لا بالهتاف فقط، بل بالتوبة الحقيقية.فهي قصة لم تنتهِ، لأننا نكمل فصولها كل يوم: إما أن نحمل الصليب ونتبع من مضى في طريق الألم، كما قَالَ لنا: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي." (مر 8: 34)، أو نقف مع الصارخين ونقول:«اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!» (يو 19: 6).  دون أن ندري.

 وبمناسبة أسبوع الآلام، نُسأل من جديد: أين نحن من القصة؟ إن أحداث أسبوع الآلام لم تكن مجرد قصة تاريخية، بل درسًا إنسانيًا عميقًا حول طبيعة الخير والشر، وكيف يمكن للحشود أن تتغير من التأييد إلى الرفض تحت تأثير القادة غير الأمناء والمصالح الشخصية. فهل نتأمل هذه الدروس اليوم ونتجنب الوقوع في نفس الأخطاء؟ أم نظل نسمح للسوس بأن ينخر في مجتمعاتنا حتى يأتي وقت لا ينفع فيه الندم؟


  فلنُصغِ للنداء الذي يتردد في داخلنا مع كل أسبوع آلام: لا نكتفِ بالمشاهدة من بعيد، بل لندخل القصة، نحمل صليبنا، ونغفر، ونُحب، ونقف في وجه الظلم، لا كأصوات تذوب في الجموع، بل كصدى لصوت الحق.فما بين "أوصنّا" و"اصلبه" تختبئ اختباراتنا اليومية، تلك اللحظات التي نُخَيَّر فيها بين الحياة والموت، وبين الصمت والحق، وبين المساومة والشهادة. ففي كل يوم جديد، يمرّ المسيح من بيننا... فهل نراه؟ أم نغضب من الأطفال الذين يسبّحون؟ القصة لم تنتهِ، لأن القيامة لم تكن خاتمة، بل بداية تُكتب من جديد في قلب كل من يؤمن ويتبع.