الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
 عن أوهام الفهم الحرفيّ للترجمة وكأنّها الأصل الإلهيّ
  "يسوع ماكانش بيتكلم عربي فُصْحى"


في كل مرة حد يفتح إنجيل باللغة العربية، ويحاول يفسّر نصًّا حرفيًا، كأنه بيقرأ وثيقة نازلة من فوق بالحروف دي، بنكون قدام واحدة من أخطر المشاكل في الفهم الديني: "تقديس الترجمة".

يسوع، اللي كان بيعلّم وسط الفلاحين والصيادين، ماكانش بيستخدم "أدوات الربط" أو "إعراب" زي ما بنسمع في العظات الفُصْحى. يسوع كان بيحكي قصصًا بلُغة الناس، "الآرامية"، وهي لغة شعبية كانت قريبة جدًا من أحوال السامعين، من لهجتهم، من تعبهم اليومي، من خيبتهم تحت الاحتلال.
لكن لما نقرأ النهارده "طوبى للمساكين بالروح"، ونحاول نحلّلها لغويًا كأنها جملة عربية نحوية، إحنا ببساطة بنفصل النص عن تاريخه، وعن سياقه، وعن لهجة صاحبه.

"الوهم الحرفيّ" مش بس جهل، ده أيديولوجيا
الوهم الحرفي مش مجرد سذاجة، هو نتاج "إيديولوجيا أصوليّة"، شايفة إن أي محاولة لفهم النص خارج الحرف العربي تعتبر "تشكيك في الوحي". فبدل ما الناس تفهم يسوع اللي عاش واتكلم في القرن الأول، بيفهموا "نسخة عربية" من يسوع ما يعرفهاش حتى الرسل.

الخطير في ده إن كتير من الإكليروس بيكرّسوا للفكرة دي عن قصد أو جهل:  
"ما تفسّرش، ما تحلّلش، إقرأ زي ما هو مكتوب".  

لكن السؤال الحقيقي هو: مكتوب بإيد مين؟ وبأي لغة؟ وفي أي سياق؟

 الترجمات ليست بريئة
مافيش ترجمة بريئة. الترجمة دايمًا بتدخّل ثقافة المترجم، وخلفيته اللاهوتية، بل أحيانًا ميوله العقيدية. وده واضح في كل ترجمة عربية تقريبًا.

في كلمات هي بنفسها بتفرض مفاهيم مختلفة ذي مثلا:
 "التوبة" تُترجم كأنها "ندم"، بينما الكلمة اليونانية (μετάνοια) تعني "تحوُّل أو تغيّر الذهن"، نقلة في الرؤية.
- "عبد" تُترجم بشكل مربك بين "عبد" و"خادم"، رغم الفرق الكبير بين المعنيين، والموقف اللاهوتي منهم.
- "ملكوت السموات، أو ملكوت الله" تُفهم أحيانًا كأنها مكان فوقي، بينما الأصل اليهودي يشير إلى سيادة الله في التاريخ، تدخّل الله في الواقع، مش في السماء.

 فين المشكلة؟
المشكلة إن القارئ العربي، اللي غالبًا ما تعلّمش لغة عربية حقيقية في المدرسة، بيقرأ النص العربي المقدس وهو فاكر إنه بيقرأ النص الأصلي... ودي كارثة مزدوجة:
1. بيفهم النص غلط بسبب اللغة من الأساس.
2. بيتصوّر إن فهمه ده هو الإيمان السليم، وكل ما عداه بدعة أو تشكيك.

مثال بسيط
كلمة "رؤية" في نص نبوي ممكن تُفهم على إنها حلم. بس في الأصل العبري أو السياق النبوي، "الرؤية" ممكن تكون موقف احتجاجي، كشف للواقع، زي كاميرا روحية بتصوّر القهر والظلم وتفضحهم.
لكن لما نقرأها بمنطق الحرف العربي: "آه، دي رؤية يعني شاف حلم"، بنكون قتلنا النبوة وحوّلناها لحالة نوم وأحلام وهلاوس سمعية وبصرية!

في النهاية:
يسوع ماكانش بتاع فصحى.  
ماكانش بيقول "هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم" بالصيغة المترجمة دي.  
كان بيكلم معاصريه بلغة الناس.  
والإيمان الحقيقي مش في الحرف، لكن في الدخول لعُمق الروح، لعُمق السياق، لعُمق القصة.
فـ قبل ما تقول "الكتاب قال كذا"، اسأل نفسك:  
الكتاب "بأي لغة" قال كده؟  
في أي سياق؟
ومين اللي ترجمها؟  
وليه؟
 الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ