كمال زاخر
(11) الدور العلمانى المفتقد فى تدبير الكنيسة 
لا أعرف متى تسلل الينا تقسيم الكنيسة جسد المسيح الواحد إلى إكليروس وعلمانيين، هذه الثنائية التى اقتحمتنا، وحملت معها رياح التمييز واخذتنا إلى تراتبية طبقية، وكان من الطبيعى والأمر كذلك أن تمتد التراتبية الطبقية إلى المكون الإكليروسى نفسه، ليس فقط فى الترتيب الهرمى السلطوى، بل بين الكهنة المتزوجين والكهنة الرهبان، بالمخالفة لطبيعة الكنيسة الارثوذكسية (القبطية)، والتى تُعَلّم بأن كليهما، الاكليروس والعلمانيين، معاً "شعب الله"، ولا تقر الفصل التعسفى بينهما، ولا تعرف الطبقية داخل رتب الإكليروس، فهم بكل تراتبيتهم كهنة لله، يمارسون ذات الصلوات ونفس الطقوس، والشاهد سر الأسرار "الافخارستيا" الذى ينتهى بنا إلى تحول الخبز والخمر إلى جسد حقيقى ودم حقيقى ليسوع المسيح، حقيقى وليس مادياً، بحلول الروح القدس عليهما، يستوى فى هذا اصغر كاهن فى اقصى قرية ونجع مع الاساقفة والمطارنة، حتى إلى البابا البطريرك. وحضور العلمانيين شرط اساسى فى اقامة السر الإفخارستى، ولا يستقيم اتمامه فى غيابهم. ولهذا تسمى كنيستنا "كنيسة الشعب"
 
وبامتداد تاريخ الكنيسة كان العلمانيون قوة الكنيسة الناعمة، وسبقوا الرسل والتلامذ فى اعلان المسيح للأمم، وهو ما يؤكده سفر أعمال الرسل، حين يخبرنا بحضورهم يوم الخمسين من كل الأمم والألسنة، وهم "الذين تشتتوا من جراء الضيق الذي حصل بسبب استفانوس فاجتازوا الى فينيقية وقبرس وانطاكية، وهم لا يكلمون احدا بالكلمة الا اليهود فقط، ولكن كان منهم قوم، وهم رجال قبرسيون وقيروانيون، الذين لما دخلوا انطاكية كانوا يخاطبون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع. وكانت يد الرب معهم، فامن عدد كثير ورجعوا الى الرب." (اعمال 11: 19 ـ 21)
 
ويخبرنا نفس السفر " ثم اقبل الى افسس يهودي اسمه ابلوس، اسكندري الجنس، رجل فصيح مقتدر في الكتب كان هذا خبيرا في طريق الرب. وكان وهو حار بالروح يتكلم ويعلم بتدقيق ما يختص بالرب. عارفا معمودية يوحنا فقط،  وابتدا هذا يجاهر في المجمع. فلما سمعه اكيلا وبريسكلا اخذاه اليهما، وشرحا له طريق الرب باكثر تدقيق. (اعمال 18: 24 ـ 26)، ونلاحظ هنا دور اكيلا وبرسكيلا فى شرح طريق الرب بأكثر تدقيق، ولم يكونا من التلاميذ، ولم يحملا أية رتبة اكليروسية.
 
وفى تتبعنا لتوصيات القديس بولس نجده يوصى الكنيسة فى رسالتين بالاهتمام بثلاث خادمات، جاهدنا معه فى الإنجيل، فى رسالته الى رومية الإصحاح السادس عشرة "اوصي اليكم باختنا فيبي، التي هي خادمة الكنيسة التي في كنخريا، كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين، وتقوموا لها في اي شيء احتاجته منكم، لانها صارت مساعدة لكثيرين ولي انا ايضا."
 
وفى رسالته الى فيلبى الإصحاح الرابع " اطلب الى افودية واطلب الى سنتيخي ان تفتكرا فكرا واحدا في الرب،  نعم اسالك انت ايضا، يا شريكي المخلص، ساعد هاتين اللتين جاهدتا معي في الانجيل، مع اكليمندس ايضا وباقي العاملين معي، الذين اسماؤهم في سفر الحياة".
 
ويحدد معالم الخدمة فى الكنيسة بتدقيق فى رسالته إلى افسس الإصحاح الرابع " الذي نزل هو الذي صعد ايضا فوق جميع السماوات، لكي يملا الكل. وهو اعطى البعض ان يكونوا رسلا، والبعض انبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين".
 
ويعود فيؤكد التكامل فى نفس الإصحاح "بل صادقين في المحبة، ننمو في كل شيء الى ذاك الذي هو الراس: المسيح،  الذي منه كل الجسد مركبا معا، ومقترنا بمؤازرة كل مفصل، حسب عمل، على قياس كل جزء، يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة."
 
ويلح القديس بولس على هذا المفهوم باصرار واستفاضة فى رسالته الأولى إلى كورنثوس الإصحاح الثانى عشر " ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسما لكل واحد بمفرده، كما يشاء، لانه كما ان الجسد هو واحد وله اعضاء كثيرة، وكل اعضاء الجسد الواحد اذا كانت كثيرة هي جسد واحد، كذلك المسيح ايضا لاننا جميعنا بروح واحد ايضا اعتمدنا الى جسد واحد، يهودا كنا ام يونانيين، عبيدا ام احرارا، وجميعنا سقينا روحا واحدا، فان الجسد ايضا ليس عضوا واحدا بل اعضاء كثيرة. ان قالت الرجل:«لاني لست يدا، لست من الجسد». افلم تكن لذلك من الجسد؟  وان قالت الاذن:«لاني لست عينا، لست من الجسد». افلم تكن لذلك من الجسد؟  لو كان كل الجسد عينا، فاين السمع؟ لو كان الكل سمعا، فاين الشم؟  واما الان فقد وضع الله الاعضاء، كل واحد منها في الجسد، كما اراد، ولكن لو كان جميعها عضوا واحدا، اين الجسد؟،  فالان اعضاء كثيرة، ولكن جسد واحد."
 
وفكرة البناء الواحد يؤكدها القديس بطرس فى رسالته الأولى الإصحاح الثانى "كونوا انتم ايضا مبنيين -كحجارة حية بيتاً روحياً ...  وأما انتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة الى نوره العجيب."
 
لعل السؤال هل يمكن تصور كنيسة بلا "رعية"؟ الكنيسة هى الناس، ومنهم يخرج الخدام بدأ من خدمة فصول مدارس الأحد وحتى البابا البطريرك مروراً بالكهنة والرهبان والأساقفة، وهم "خُدَّام" للناس الذين خرجوا منهم.
 
فى تقديرى أن اشكالية ثنائية الاكليروس والعلمانيين، بدأت على استحياء مع التطور الذى لحق بالأديرة، بالتحاق الشباب الجامعى بالرهبنة والذى بدأ بدخول الأستاذ سعد عزيز المحامى (الراهب مكارى السريانى ـ الأنبا صموئيل اسقف الخدمات فيما بعد) والدكتور يوسف اسكندر (القمص متى المسكين)، وكلاهما ترهبا 1948، ثم يلحقهما سنة 1954،الأستاذ نظير جيد (الراهب انطونيوس السريانى ـ الأنبا شنودة أسقف التعليم ـ البابا شنودة الثالث فيما بعد)، وإن سبقهم بنحو عشر سنوات ويزيد الأستاذ فهيم شنودة المحامى والذى ترهب عام 1939 بدير البرموس، باسم الراهب فرنسيس شنودة البرموسى، لكنه لم يبرح ديره حتى رحيله ولم يشتبك مع اشكاليات الكنيسة.
 
كان رجل الساعة فى تلك المرحلة الراهب مينا المتوحد (مينا البرموسى) الذى وجد شباب اربعينيات القرن العشرين عنده ملاذاً ومرشداً يحتضنهم ويتابع خطواتهم نحو الرهبنة، وعنده تبدأ تباشير استعادة كنيسة الصلاة الدائمة، واحياء صلوات الأجبية والتسبحة، وحين يصير بطريركاً باسم البابا كيرلس السادس، تجد كل الأطراف فيه النموذج الرهبانى الذى ظل حبيس الكتب التراثية، فيلتفون حوله ويتابعون قداساته اليومية، ويهرعون إلى صالونه المفتوح لاستقبالهم بلا قيود أو حواجز،  وتنتعش الكنيسة وتضع اقدامها على طريق العودة لكنيسة الآباء.
 
وقد تعرضنا فى طرحنا هذا لطيف من مناخات الخدمة عنده، وكيف فتح الباب لشباب الرهبان ليجدوا لهم مكاناً فى دائرته، وعندما يجلس تلاميذه على الكرسى البابوى، وكراسى الأسقفية بالتبعية تشهد الكنيسة تقليصاً متتالياً للمشاركة العلمانية فى تدبير الكنيسة، بشكل متدرج، ليس فقط فى تحجيم المجلس الملى، بل واسناد مفاصل ادارة الكنيسة للإكليروس وبالأكثر للآباء الرهبان، لينتهى الأمر بحصر عمل الكوادر المدنية العلمانية فى مربع الأعمال التنفيذية، وحتى هذه شهدت مزاحمة الإكليروس، سواء فى مجالس (لجان) الكنائس، أو فى تولى الكاهن مهام البناء والتشييد والتجديد، وجمع الأموال اللازمة، والتى تبتلع وقته وجهده على حساب مهام الرعاية، وتتحول الكنيسة من "كنيسة الشعب" إلى "كنيسة اكليروسية"، وكان من الطبيعى أن تصطدم الكنيسة بالدولة بعد اختفاء همزة الوصل (العلمانيين)، وكانت احداث سبتمبر 1981، إحدى نتائج هذا الاصطدام. وكان من الطبيعى أن تتفاقم المشاكل الأسرية، ومغازلة الإلحاد لشبابها المفتقر لتعليم مسيحى ارثوذكسى، وتفشى الطلاق فى عدد غير قليل من الأسر.
 
ولهذا ولأسباب أخرى، منها التراجع الذى تعانى منه الأديرة، بفعل التهاون فى ضوابط القبول، وغياب الشيوخ أو اقصائهم، كما بيّنا سابقاً، تعانى الكنيسة التى انفرد فيها الإكليروس بادارتها من تداعيات مرتبكة، فالأسقف بطبيعة الأمر يحتاج إلى خبرات فى الادارة وفى الأمور المادية والمالية، وفى العلاقات مع الجهات الرسمية والدولة، وفى المواقف السياسية، وفى التوسع العمرانى، وفى رعاية المعوزين، ورعاية الشباب، وهى خبرات تتوفر عند العلمانيين بحكم تنوع تخصصاتهم، وتجاربهم الحياتية، ومشاركتهم فى تدبير الكنيسة يعفيه من حرج الانغماس فيها، والتى تجور على مسئوليات الرعاية والتعليم عنده.
 
ومن يتابع دفتر أحوال الكنيسة، يلحظ تنامى ازمة الثقة بين طرفى المعادلة، الإكليروس والعلمانيين، وبروز أزمة التناقض الجيلى والخطوط المقطوعة بين الاجيال وبعضها، وتحول العلاقة داخل كثير من الكنائس من الأبوة والبنوة إلى التسلط من جانب والتمرد من جانب أخر. وهنا تقفز الحاجة إلى خدمة المصالحة.
 
وتظهر الحاجة إلى تكوين مجالس علمانية حول الأسقف تتمتع بالابتكار واستشراف الحاجات الرعوية، وتخفف عنه الأعباء الكثيرة التى تثقل كاهله.
وغير خاف أن العلمانى اكثر قدرة على التعرف والاشتباك مع العالم الحديث، واكثر قدرة، بحكم التنوع المعرفى، على التعرف على مشاكله وتحليلها ومناقشتها ووضع حلول لها، لكونه عضو فاعل فى بيئته الاجتماعية وبثقافة مسيحية، والعلمانيون بطبعية وجودهم فى مجتمعاتهم هم شهود الكنيسة فى دوائرهم الخاصة والعامة وهم مدعوين من الله أن يكونوا خميرة الروح القدس التى تخمر العجين كله.
ونجاح وتحقق الدور العلمانى يقوم على اتحادهم الحيوى بالمسيح (انا الكرمة وانتم الاغصان. الذي يثبت في وانا فيه هذا ياتي بثمر كثير، لانكم بدوني لا تقدرون ان تفعلوا شيئا. ـ يوحنا 15 : 5).
 
وفى دراسة متعلقة بدور العلمانيين فى الكنيسة يوصى الباحث العلمانيين "أن يجعلوا من جميع أعمالهم تقدمات روحية، ويكونوا شهوداً للمسيح فى دوائرهم بامتداد حياتهم، وتمدهم اسرار الكنيسة ولا سيما الافخارستيا المقدسة بطاقة الإنجاز لحساب المسيح، وتغذيهم بتلك المحبة التى هى بمثابة الروح لكل عملهم.
 
تأسيساً على ثلاثية الإيمان والرجاء والمحبة التى هى اعظم وصايا الرب ليكن عملهم من أجل مجد الله ومن خلالهم تعرف دوائرهم الاله الحقيقى وهو هدف الرب يسوع (وهذه هي الحياة الابدية: ان يعرفوك انت الاله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي ارسلته ـ يوحنا 17 : 3)".
 
وغياب الدور العلمانى فى تدبير الكنيسة انتج زيادة عدد الكهنة لسد الحاجة لمن يدير عمارة وصيانة الكنيسة هندسياً، ومتابعة العمل مع المقاولين، وخدمة الاسر المحتاجة، ومتابعة أزمات الأسر حديثة التكوين، والمصالحات الأسرية، وتدبير عمل للعاطلين، والتواصل مع الجهات الحكومية والأمنية لحل المشاكل القانونية والإدارية، وتدبير الأموال اللازمة لسد احتياجات الكنيسة والأسقف، وينتهى الأمر بنا الى كنيسة تفتقر للرعاية وتعانى من ترهل التعليم، واستبداله بالتعليم الانطباعى، المنبت الصلة بتعليم الآباء، المميز لكنيستنا، ترهل محتشد بالحكاوى وحديث المعجزات التى تدغدغ المشاعر التى تزول مع اول خطوة خارج الكنيسة.
 
وانتج هذا الغياب ما نشاهده من أوجه الصرف غير المنضبطة، وغير المبررة، لعل ابرزها الرحلات المكوكية الى الغرب، والمبالغة فى مظاهر الحياة الأسقفية، المقرات والملابس الامبراطورية الدخيلة والمفارقة للحس القبطى، والاحتفالات الشخصية، المولد والرهبنة والتجليس الأسقفى، عند عدد غير قليل من الأساقفة. يحدث هذا من شخوص توفر لهم قدر من التعليم الجامعى ويعيشون باقدار مختلفة معطيات ومنتجات الحداثة، ويقبلون فى ذات الوقت مظاهر حياة العصور الوسطى.
 
نختتم طرحنا فى لقاء قادم يحمل تصورات الخروج بالكنيسة إلى النهار. والمصالحة المنتظرة داخلها، وعودتها لرسالتها التى تأسست لأجلها.