القمص بطرس البرموسي
يُعدُّ الكذب من الخطايا الخطيرة التي يحذر منها الإيمان المسيحي الأرثوذكسي، إذ يُعتبر تضليلاً للحقيقة وإضرارًا بالعلاقات الإنسانية والروحية. فالكتاب المقدس يوضح بجلاء أن الكذب يتعارض مع طبيعة الله الذي هو "الإله الحق"، ويُعدّ صفة من صفات الشرير، مما يجعل المؤمن مدعوًا للابتعاد عنه بكل أشكاله.
تعريف الكذب
الكذب هو قول الباطل أو تشويه الحقيقة بقصد الخداع، سواء كان ذلك بالكلام أو بالفعل. وقد يتخذ عدة أشكال مثل شهادة الزور، والخداع، والمبالغة، والغش، وإخفاء الحقيقة.
التحذير الكتابي من الكذب
الكتاب المقدس يدين الكذب بوضوح، ففي الوصايا العشر يقول الله: "لا تَشهَدْ علَى قريبِكَ شَهادَةَ زُورٍ" (خروج 20: 16). كما يُذكر في سفر الأمثال: "شَفَتَا الكَذِبِ مَكْرُوهَتَانِ لِلرَّبِّ، أَمَّا العَامِلُونَ بِالصِّدْقِ فَرِضَاهُ" (أمثال 12: 22).
وفي العهد الجديد، يحذر الرب يسوع من الكذب قائلاً: "أنتم مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وشَهَواتِ أبِيكُمْ تُرِيدُونَ أنْ تَعْمَلُوا. ذاكَ كانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ البَدْءِ، ولَمْ يَثْبُتْ فِي الحَقِّ لِأنَّهُ لَيسَ فِيهِ حَقٌّ... لأنَّهُ كَذَّابٌ وأَبُو الكَذَّابِ" (يوحنا 8: 44). وهذا يظهر أن الكذب مرتبط بالطبيعة الشيطانية.
الخطورة الروحية للكذب
1.إفساد العلاقة مع الله
المسيحي مدعوٌّ ليكون صورة لله في الأرض، والله هو "إله الحق"، لذا فإن الكذب يُبعد الإنسان عن الله، لأنه يضعه في دائرة الشر والخداع.
2.تدمير العلاقات الإنسانية
الكذب يؤدي إلى فقدان الثقة بين الناس ويزرع الشك والانقسام، فالعلاقات المبنية على الغش والخداع لا تدوم.
3.إفساد الضمير
الممارسات المتكررة للكذب تجعل الإنسان معتادًا عليه، فيصبح ضميره مشوَّهًا وغير قادر على التمييز بين الحق والباطل، مما يؤدي إلى تبلد روحي وأخلاقي.
4.تعريض النفس للهلاك الأبدي
يحذر سفر الرؤيا من عاقبة الكذب قائلًا: "أَمَّا الخَائِفُونَ وَغَيْرُ المُؤْمِنِينَ... وَجَمِيعُ الكَذَّابِينَ فَنَصِيبُهُمْ فِي البُحَيْرَةِ المُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ" (رؤيا 21: 8). وهذا تأكيد على أن الكذب ليس مجرد زلة صغيرة، بل قد يؤدي إلى الهلاك الأبدي إن لم يتب عنه الإنسان.
تعاليم الآباء القديسين حول الكذب
1-القديس أغسطينوس
يرى القديس أغسطينوس أن الكذب يشوه صورة الإنسان كمخلوق على صورة الله، قائلاً: "كما أن الحقيقة هي من طبيعة الله، فإن الكذب هو من طبيعة الشيطان. فاختر لمن تريد أن تكون ابنًا."
2-القديس يوحنا ذهبي الفم
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "ليس هناك شيء يُفسد النفس أكثر من الكذب، فهو يجعل الإنسان غير جدير بالثقة حتى أمام الله."
3- القديس باسيليوس الكبير
يؤكد القديس باسيليوس أن الكذب يهدم المجتمع ويضعف أساساته، ويقول: "كما أن البيت لا يقوم على أساس هش، فإن المجتمع لا يستقر إن كان مبنيًا على الكذب."
كيفية التخلص من الكذب
1. التمثل بالمسيح
يسوع المسيح هو "الطريق والحق والحياة" (يوحنا 14: 6)، والمسيحي مدعوٌّ ليقتدي به في الصدق والنزاهة.
2- ضبط اللسان
يجب على المؤمن أن يفكر قبل أن يتكلم، ويسأل نفسه: "هل ما سأقوله هو الحقيقة؟ هل هو لبناء الآخرين أم لإيذائهم؟"
3- الإكثار من الصلاة وطلب المعونة الإلهية
الصلاة تمنح القوة لمقاومة الخطايا، ومن الجيد أن يطلب المؤمن من الله أن ينقي قلبه ولسانه.
4- الاعتراف والتوبة
إذا وقع الإنسان في الكذب، فعليه أن يعترف بخطيئته أمام الله وأمام الأب الروحي، ويسعى جاهدًا لعدم تكرارها.
5- عيش حياة شفافة ومملوءة بالحق
العيش بصدق لا يعني قول الحقيقة فقط، بل يعني أيضًا أن يكون الإنسان صادقًا في أفعاله ونواياه.
إذًا فلتعلن أن الكذب خطيئة مدمرة للإنسان روحيًا واجتماعيًا، وهو سمة من سمات الشرير. يدعونا الإيمان المسيحي الأرثوذكسي إلى الابتعاد عن الكذب والتحلي بالصدق في كل أمور حياتنا. فالله هو "إله الحق"، وكل من يسعى للحياة معه يجب أن يتحلى بالحقيقة. كما يقول الكتاب المقدس: "لِيَكُنْ كَلامُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ" (متى 5: 37).
القمص الدكتور/ بطرس البراموسي
دكتوراه في الفلسفة تخصص تاريخ الأقباط - جامعة الإسكندرية
ماجستير في اللاهوت العقيدي- معهد الدراسات القبطية
ماجستير في التراث المسيحي المدون باللغة العربية جامعة الإسكندرية
عضو الاتحاد العام للمؤرخين العرب