بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر
الرهبنة هي نذر التبتل إلى الله، مع أختيار الفقر طواعية وأعتزال العالم، والحياة الرهبانية ليست ملجأ ولا مأوى للكسالى والفاشلين، أو مهنة لعديمي المهن، وهي ليست دعوة لجميع الناس، بل الذين يدعوهم الله فقط، فالله بحكمته يوزع المهمات، ويحفظ لكل إنسان دعوة خاصة به، والمدعوون إلى الحياة الرهبانية لا يخلصون إلا في الحياة الرهبانية، والرهبان يختبرون ذلك جيداً، وقد قال بعض الأباء القديسين أن الراهب مطالب بأكثر مما يطالب به الأنسان العادى.
يقول الأنبا باخوميوس الرهبنةُ هي: الصومُ بمقدارٍ والصلاةُ بمداومةٍ وعفَّةُ الجسدِ وطهارةُ القلبِ وسكوتُ اللسانِ وحفظُ النظرِ والتعبُ بقدرِ الإمكان، والزهدُ في كلِّ شيءٍ.
وقال أيضاً: «سبيلُ الراهبِ ألا يكتفي بنسكِ الجسدِ وتعبِه وحده، بل عليه أن يحصلَ على خوفِ اللهِ ساكناً فيه، فإنه هو الذي يحرقُ الأفكارَ الرديئة ويُفنيها، كمثلِ النارِ التي تحرقُ الصدأ وتنظِّفُ الحديدَ من الشوائبِ. كذلك خوفُ اللهِ يطردُ كلَّ رذيلةٍ من الإنسانِ ويجعله إناءً للكرامةِ يصلُحُ لعملِ اللهِ».
وقال أيضاً: «الأكلُ بقدرٍ ليس خطيةً، وإنما هزيمةُ الرهبانِ هي أن تَسُودَ عليهم الحنجرةُ ويتعبَّدوا للشهوةِ».
و أيضاً قال : النفسُ المحبةُ للهِ سعادتُها في اللهِ وحده. حِلَّ قلبَك من الرباطاتِ البرانية أولاً، حينئذ تقدر أن تربطَه بحبِ الله. مَن لم يفطم نفسَه من حبِّ الدنيا لا يستطيع أن يتذوَّق حلاوةَ محبةِ اللهِ. إن الأعمالَ الروحانية تتولَّد من الأعمالِ النفسانية، والأعمالُ النفسانية تتولَّدُ من الجَسَدَانية. مَن يهرب من سُبح العالم بمعرفةٍ فإنه يكتنز في نفسِه رجاءَ العالمِ العتيد. الذي يفرُّ من نياحِ الدنيا فقد أدرك بعقلِه السعادةَ الأبديةَ.
قال أنبا مقاريوس: «كمثلِ إنسانٍ إذا دخل إلى الحمامِ إن لم يخلع ثيابَه لا ينعم بالاستحمامِ، كذلك الإنسانُ الذي أقدم إلى الرهبنةِ ولم يتعرَّ أولاً من كلِّ اهتمامِ العالم وجميعِ شهواتهِ وملذَّاتهِ، فلن يستطيعَ أن يصيرَ راهباً ولن يبلغَ حدَّ الفضيلةِ. ولن يمكنه كذلك أن يقفَ قبالة جميع سهامِ العدو التي هي شهوات النفس».
وقال أيضاً: «يجبُ على الراهبِ أن يكونَ في سكونٍ في كلِّ حين ولا يسمع لأفكارِه التي توعز إليه بكثرةِ الكلامِ الذي يُضعف النفسَ، بل ليمسك عن الكلام حتى ولو نظر أناساً يضحكون أو يتحدثون بكلامٍ لا منفعة له وذلك لجهلِهم. لأن الراهبَ الحقيقي يجب أن يتحفظ من لسانِه كما هو مكتوبٌ في المزمور: اللهم اجعل لفمي حافظاً وعلى شفتيَّ ستراً حصيناً. فالراهب الذي يسلك هكذا لا يعثر أبداً بلسانِه، ولكنه يصبح إلهاً على الأرضِ».
سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «يا أبي، لماذا لا يثبت جيلُنا هذا في أتعابِ الآباء الأولين»؟ فأجابه الشيخُ قائلاً: «لأنه لا يحبُّ الله ولا يفرُّ من الناسِ ولا يبغض قشاش العالم، إن كلَّ شخصٍ يفرُّ من الناسِ ومن المقتنيات فإن تعبَ الرهبنةِ يأتيه قبلَ سِنهِ، فكمثل إنسانٍ يريدُ أن يطفئ ناراً قد اشتعلت في بقعةٍ، فما لم يسبق ويبعد القشَ من قدام النار، لا يمكنه إطفاءَها، كذلك الإنسان، إن لم يذهب إلى موضعٍ لا يجد فيه الخبزَ والماءَ إلا بشدةٍ، فلا يستطيع أن يقتني تعبَ الرهبنةِ، لأن النفسَ ما لم تبصر فلا تشتهي سريعاً».
قال شيخٌ: «من لا يقتني تعبَ الرهبنةِ فلن يقتني فضائلها، ومن لا يقتني فضائلها فلن يقتني مواهبها».
قال شيخٌ: «كما أن الإنسانَ الذي ترك المملكةَ وترهب يُمدح من كلِّ العقلاءِ والفضلاءِ، لأن الرهبنةَ أفضلُ من كلِّ ما تركه، إذ هي توصِّل إلى المملكةِ السمائية الدائمة، كذلك إذا ترك إنسانٌ الرهبنةَ وصار ملكاً، فإنه يُذمُّ من كلِّ الفضلاءِ».
قال شيخٌ: «الرهبنة هي غربةٌ، وفقرٌ، وصبرٌ على البلايا والظلمِ».
لقد سلك آباء البرية طريقًا قاد إلى مجتمع جديد يستند فى قوانينه إلى الحياة الروحية الحقيقية كما يعلمها التقليد الكتابى. إن حياة هذا المجتمع المسيحى المثالى تتطلب تجاوز الزمن والدخول فى الأبدية ويقول عنها Rol. Walls: [تمامًا مثل يوحنا المعمدان الذى عاش منعزلاً بعيدًا عن عادات الناس لكى يُهيئ لمملكة، لم تكن امتدادًا أو تكميلاً لأى مملكة أخرى للناس، لكنها كانت تعنى انفصالاً جذريًا عن النظام والسلطة الزمنية. هكذا فإن الراهب هو شاهد لهذا الاختلاف الأساسى لملكوت الله عن الممالك الأخرى].
وأيضا يقول البروفيسور D. Ts£mej [ بالروح القدس يستطيع الراهب الناسك أن يتذوق من الآن، وبأسلوب اسخاتولوجى خيرات ملكوت الله ].
ويؤكد القديس غريغوريوس اللاهوتى على أن [ الرحيل إلى الصحراء هو إمتداد طبيعى لتلك الرغبة القوية للهدوء والاختلاء] .
إن الرغبة الصادقة والملحة فى طلب الكمال والاشتياق لسكنى المحبة فى نفوس الناس ومحاولة صنع جسور بين الحياة السمائية والحياة الأرضية، دفعت هؤلاء الرهبان للرحيل للصحراء، وتأسيس مجتمع جديد يسوده الحب وإنكار الذات .
وإنما الحياة الرهبانية حياة تمجيد وشهادة للمسيح. وإن كان لازماً للمؤمن العادي أن يشهد للمسيح في الظروف والمواقف التي تحتاج إلى شهادة، فعلى النفوس التي تكرست، أي تخصصت للمسيح إلتزام دائم بها. وليس الإلتزام فيها بالشهادة مجرد دافع إنطلقت به إلى الطريق، أو موقف تقفه في ظرف ما، لأن الذين تكرسوا لله صاروا جنودا ملتزمين برسالة خاصة ذاتية ودائمة. ووضعوا على أنفسهم مسئولية أن يغلبوا العالم بالمسيح الذي فيهم، ويملأ كيأنهم. من أجل ذلك يحتاجون أن يدربوا أنفسهم على التجرد والتخلي عن كل شيء في العالم. ولعلهم يصلون إلى ذلك بمراعاة بعض مبادئ أساسية نبسطها فيما يلي:
1. التبعية وحياة التسليم: يبدأ الطريق بتسليم الحياة لله وتظل النفس تمارس حياة التسليم بفرح فيقودها السيد المسيح إلى حياة الإلتزام. ويقول الرب فى سفر الأمثال: "يا ابني أعطني قلبك. ولتلاحظ عيناك طرقي" (أم26:23). وليس التسليم مجرد موقف مرة واحدة يسير بعدها كل شيء هادئاً. بل هو حياة نمارسها كل يوم. فعلى االنفس أن تثبت ذاتها كل يوم في تسليمها لله بلا تحفظ متخلية عن قيادتها ، مرتمية في أحضأنه يتعهدها هو ويعمل فيها حسب مشيئته. يمسك بإرادتها ويجعلها حسب إرادته ، وبذلك تجد سعادة في إتمام مشيئته ، وتستريح لفعل النعمة ، وعمل الروح القدس الذي يسري في داخلها. فتتقدم في طريق الإستنارة وتفرح بإكتشاف ضعفاتها وخطئها ، ولا تبرر ذاتها.
2. حياة التوبة: التوبة هي رجوع إلى الله وعطش إليه بلا حد لهما، وحياة الراهب حياة توبة داخلية دائماً ، وسعي متواصل نحو الله يستمر كل الأيام. أنه سعي نحو الله لا ينقطع، والحياة الرهبانية أمتداد إلى الأمام لا يعرف الوقوف لأن( البلوغ ) الكمال [ أي من شعر أنه وصل إلى كمال الحياة الروحية ] هو سقوط مريع {غريغوريوس أسقف نصص } "إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (في14،13:3) .
وعملية النقاوة تفوق علم الإنسان. وهي من إختصاصات الله وحده لأن الجهادات البشرية لا تنفع دون فعل الله. فالحياة الرهبانية إمتداد إلى الأمام ، لا تعرف الوقوف لأن الله غير المحدود ، مالئ السموات والأرض، هو الحقيقة الوحيدة التي لا يُشبع منها. وكما أن لذة الله هي في الإنسان. "كنت عنده صانعاً وكنت كل يوم لذته فرحة دائماً قدامه. فرحة في مسكونة أرضه ولذاتي مع بني آدم" (أم31،30:8). هكذا الإنسان لا يجد لذة ولا شبعاً إلا في الله وحده. "لو لم تكن شريعتك لذتي لهلكت حينئذ في مذلتي" (مز92:119). "عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قدام الله" (مز2:42). "يا الله إلهي أنت. إليك أبكر. عطشت إليك نفسي يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء" (مز1:63).
قال مار إسحق: "التوبة هي باب الرحمة المفتوح للذين يريدونه وبغير هذا الباب لا يدخل أحد إلى الحياة". وقال أيضا: "مبدأ التوية هو الإتضاع الذي بلا ندى كاذب مشوش". "من زل وأخطأ وعرف سبب مرضه فأنه بسهولة يشفى بالتوبة". وسئل الأنبا بيمن: ما هي التوبة ؟ أجاب: التوبة هي الإقلاع عن الخطية وأن لا يعاود الإنسان فعلها.
3. الإكتفاء به: هو الشعور بأن الله هو مبتغاها وكل رغبتها تشبع فيه معك لا أريد شيء أخر على الأرض. والنفس المتمسكة بملذات العالم تفتقر يوماً بعد يوم ، فتفقد حريتها وقوتها وبدلاً من أن تجد سعادتها تصل إلى التعاسة. وإن لم تواظب النفس على السعي نحو الله وتضل وتظلم. فعطش النفس إلى الله لا حدود له ولذلك لا يرويه إلا حب الله وحب الله له.
وإن كنا نولد بالطبيعة المتصارعة ، وتدوم فينا. إلا أن الرب الذي سكن فينا ، هو أقوى منها. وعلينا الإلتزام به، لأنه كفايتنا، وهو كفيل بضبط عناصرها فيه. "وبهذا نعرف أننا من الحق ونسكب قلوبنا قدامه. لأنه إن لامتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء. أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله" (1يو19:3-21).
4.العهود: إدراك الحياة الجديدة يؤدي إلى إلتزام بالرب ، والشهادة لفعله فينا. والرهبانية تمسك دائم بهذا الإلتزام من كل الفكر ، والإرادة ، والأحاسيس. إذن الراهب الذي يحيا حياة الشهادة للمسيح هو الذي يتبع المسيح متواضعاً في الطريق ، حاملاً صليبه لكي يقتني تلك الوحدة بصلبه الجسد مع الأهواء والشهوات، فيقوم مع المسيح. "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان. إيمان إبن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غل20:2) وبذلك يكون قد حقق إنتصاره على العدو، وغلب العالم، وشهد للمسيح. متمما ذلك بواسطة فعل النذور الرهبانية الثلاثة ... العفة والفقر والطاعة. وهذه النذور ليست تفضلاً أو وفاء دين لكنها حياة نحياها متمتعين بها بالمسيح الحيّ فينا.
من قولِ القديس اكليمادوس، وصيةً لمن يريدُ الدخولَ في سلكِ الرهبنةِ: «اسمع يا ابني كلامي واحفظه. واعلم أنك منذ الآن قادمٌ لتقاتلَ السباعَ والتنانين والأراكنة الشياطين في طريق التوبةِ التي هي كربةٌ وصعبةٌ. واعلم أنك قد نصَّبت نفسَك هدفاً للشدائدِ والأحزانِ يوماً بعد يومٍ إن أردتَ أن تكون راهباً. لأنه مكتوبٌ: توقّع يا ابني الشدةَ بعد الشدةِ من وقتٍ لآخر، وهيئ نفسَك لذلك. لا تتوانَ لئلا تندمَ أخيراً وتُصبحُ رهبانيتُك باطلةً.
هذاما يجبُ أن تمارسَه إن آثرتَ أن تكونَ راهباً. لأنك إن كَسَلْتَ في إتمامِ إحدى هذه الوصايا فما أكملتَ الواجبَ، ويكونُ وعدُك كاذباً وآراؤك عن الرهبنةِ ليست صحيحةً، ومالُك الذي وزعتَه قد أضعْتَه سُدى إذ تصبح طلباتُك فارغةً، لأنك لم تستيقظ بقوةٍ ولم تُقبل على السيرةِ الرهبانيةِ باجتهادٍ، ولم تربط وسطَ قلبِك بالكمالِ، ولم تستعد للقتالِ الشديدِ ضد الشياطين غير المنظورين، كما يقول الرسولُ بولس: إن قتالَنا ليس مع لحمٍ ودمٍ، بل مع الرؤساءِ والسلاطين ومع أجنادِ الشرِّ في عالمِ الظلمةِ ومع الأرواحِ الخبيثة. فافحص قلبَك قبل أن ترفضَ الدنيا وتهيئ ذاتَك جندياً للسيد المسيح.
لأن الرهبنةَ هي درجةُ الملائكةِ الذين لا يفترون لا ليلاً ولا نهاراً عن خدمةِ ملكِهم، فَمَن دخل فيها بانحلالٍ وكسلٍ، فقد صيَّر نفسَه أشقى حالاً مما لو كان بانحلالٍ في العالمِ. وإذ لبستَ إسكيمَ الرهبنة فلا تتعظَّم بل بالأكثر اتضع لأنك قد أخذت خاتمَ الجنديةِ للمسيحِ، وأخضِعْ عُنقَك تحت نيره ولا تكن مقاوماً له ولا محارباً.
هؤلاء استلموا الإنجيل والحياة الرهبانية من الأباء الشيوخ شفاهة وحفظوه بكل دقة وقداسة وسلموها لآخرين مشهود لهم بالكفاءة والإيمان وهؤلاء سلموه لغيرهم وهكذا. يقول القديس بولس بالروح : " أمدحكم أيها الاخوة على إنكم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم " (1كو2:11) .
+ " لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضا " (1كو23:11) .
+ " فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضا " (1كو3:15) .
+ " وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا افعلوا " (فى9:4) .
+ " لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبر من الله قبلتموها، لا ككلمة أناس بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله التي تعمل أيضا فيكم أنتم المؤمنين " (1تس13:2)
هذا التعليم أو التسليم كان يسلم من الرسل إلى تلاميذهم، وتلاميذهم يسلمونه لآخرين وهكذا " وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناسا أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضا " (2تى2:2).
فقد كان الذين قبلوا الرهبنة في البداية تسلموا ما جاء فيها من قبل شفوياً وكانوا يحفظون كل ما كتب فيها ككلمة الله ووحيه الإلهي بل وأكثر مما كتب فيها.كما كرز رسل المسيح ونادوا لهم بالإنجيل، وحفظوه لهم بأسلوب التعليم والتسليم الشفوي فلما، دُونت الأناجيل كان هؤلاء يحفظون كل ما دُوِن فيها بل وأكثر مما دُوِن فيها .
ولكن مع امتداد ملكوت الله وانتشار الرهبنة في دول عديدة ومدن كثيرة وقرى لا حصر لها سواء بواسطة الرهبان الأقباط أو بواسطة تلاميذهم صار من المستحيل على الأقباط أن يكونوا متواجدين في كل هذه الأماكن في وقت واحد .